الصفحة رقم 1  2  3  4  5  6 7 8

 

البناء على القبور *

 

المراد من القبور في العنوان هو قبور الاَنبياء والشهداء والاَئمّة الاَولياء الذين لهم مكانة عالية في قلوب الموَمنين، فهل هو أمر جائز أو لا ؟

وهذه المسألة كالمسألتين السابقتين لا تمت إلى العقيدة الاِسلامية بصلة حتى تكون ملاكاً للتوحيد والشرك، وإنّما هي من المسائل الفقهية التي يدور أمرها بين الاِباحة والكراهة والاستحباب وغيرها.

ولا يصحّ لمسلم واع أن يتخذ تلك المسألة ذريعة للشرك والتكفير، فكم من مسائل فقهية اختلفت فيها كلمة الفقهاء، ومن حسن الحظ لم يختلف في هذه المسألة فقهاء الائمة الاَربعة ولا فقهاء المذهب الاِمامي ودليلهم على جواز البناء على قبور تلك الشخصيات عبارة عن سيرة المسلمين منذ رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا.

أ. وارى المسلمون جسد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته المسقف وحرصوا على بذل المزيد من العناية بحجرته الشريفة

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 70

بشتى الاَساليب، وقد جاء ذكرها في الكتب التي ألفت في تاريخ المدينة لا سيما كتاب وفاء الوفاء للعلاّمة السمهوديّ.(1)

وشيّد البناء الموجود عام 1270هـ وهو بحمد اللّه قائم لم يمسه السوء، وسوف يبقى بفضل اللّه تبارك وتعالى محفوظاً مصوناً عن الاندثار، فلو كان البناء على القبور أمراً حراماً لدفنه المسلمون في مكان واسع لا سقف فيه.

ب. انّ البناء على القبور كانت سيرة سائدة بين المسلمين من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وهذه هي كتب الرَحَلات تذكر لنا وصف القبور الموجودة في المدينة التي كانت عليها قباب وعلى قبورهم صخرة فيها اسماوَهم ونحن نذكر من ذلك نزراً يسيراً:

1. يقول المسعودي(المتوفّى445هـ) حول المشاهد والقباب في البقيع: وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع، رخامة مكتوب عليها بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه مبيد الاَُمم ومحيي الرمم وهذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، و محمد بن علي، و جعفر بن محمد.(2)

2.وذكر السبط ابن الجوزي(المتوفّى عام 654هـ) في تذكرة

__________

1 ـ وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى:2/458، الفصل التاسع.

2 ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر:2/288.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 71

الخواص ص 311 نظير ذلك.

3. كما وصف محمد بن أبي بكر التلمساني المدينة الطيبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله: وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترتفع إليه قليلاً عليه مكتوب هذا قبر الحسن بن علي دفن إلى جنب أُمّه فاطمة (عليها السلام).(1)

4. يقول الحافظ محمد بن محمود بن النجار (المتوفّى عام 643هـ)في «اخبار مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)»: في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أوّل البقيع، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة «رضي اللّه عنهم».(2)

5. ويقول ابن جبير الرحالة الطائر الصيت(المتوفّى عام 614هـ) في رحلته في وصف بقيع الغرقد: يقع في مقابل قبر مالك قبر، السلالة الطاهرة إبراهيم بن النبي عليها قبة بيضاء، وعلى اليمين منها تربة ابن عمر ابن الخطاب، وبازائه قبر عقيل بن أبي طالب (رض) وعبد اللّه بن جعفر الطيار (رض)، وبازائهم روضة فيها أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن بن علي (رض) وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور، وعن يمين الخارج منه، ورأس الحسن إلى رجلي العباس

____________

1 ـ مجلة العرب، رقم 5ـ6، الموَرخة 1393هـ.

2 ـ اخبار مدينة الرسول اهتم بنشره صالح محمد جمال بمكة المكرمة عام 1366.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 72

وقبراهما مرتفعان عن الاَرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة، أبدع الصاق، مرصّعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة، وأجمل منظر، وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم بن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويعرف ببيت الحزن... وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين وعليه قبة صغيرة مختصرة، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ رضي اللّه عنها وعن بنيها.(1)

6. وروى البلاذري انّه لما ماتت زينب بنت جحش سنة عشرين صلّى عليها عمر، وكان دفنها في يوم صائف، ضرب عمر على قبرها فسطاطا.(2)

ولم يكن الهدف من ضربه ذلك الفسطاط تسهيل الاَمر لمن يتعاطى دفنها، بل لاَجل تسهيله لاَهلها حتى يتفيوَا بظله، ويقرأوا ما يتيسر من القرآن والدعاء.

7. يقول السمهودي(المتوفّى 911هـ) في وصف بقيع الغرقد: قد ابتنى عليها مشاهد، منها المشهد المنسوب لعقيل بن أبي طالب وأُمّهات الموَمنين،تحوي العباس والحسن بن علي...وعليهم قبة شامخة في الهواء، قال ابن النجار:...وهي كبيرة عالية، قديمة البناء،

____________

1 ـ رحله ابن جبير، طبع بيروت، دار صادر، وقد زار ابن جبير المدينة المنورة عام 578هـ.

2 ـ انساب الاَشراف: 1/436.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 73

وعليها بابان، يفتح أحدهما في كلّيوم.وقال المطري: بناها الخليفة الناصر أحمد بن المستضيء... وقبر العباس وقبر الحسن مرتفعان من الاَرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مصحفة بصفائح الصفر، مكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر.(1)

إلى غير ذلك من الرحالة الذين زاروا المدينة المنورة ووصفوا تلكم المزارات و المشاهد و القباب المرتفعة ونظر الكل إليها بعين الرضا والمحبة لا بعين السخط والغضب.

وهذا النوع من الاتفاق والاِجماع من قبل علماء الاِسلام طيلة قرون أقوى شاهد على جواز البناء على قبور الشخصيات الاِسلامية الذين لهم منزلة ومكانة في القلوب.

ولنعم ما يقول العلاّمة العاملي:

مضت القرون وذي القباب مشيدة            والناس بين مؤسس ومجدد

في كلّ عصر فيه أهل الحل والـ            ـعقد الذين بغيرهم لم يعقد

لـم يـنكروا أبداً على من شادها             شيدت ولا من منكر ومفند

فـبـسـيرة للمـسلمين تتابعت               في كل عصر نستدل ونقتدي (2)

____________

1 ـ وفاء الوفاء:3/916ـ 929.

2 ـ كشف الارتياب: 395.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 74

البناء على القبور من منظار آخر

إنّ صيانة القبور والآثار الباقية من بيت الوحي والعصمة (عليهم السلام)من مظاهر حب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتكريمه، وقد أُمر المسلمون في الكتاب والسنّة بحبه وتكريمه و تبجيله، قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباوَكُمْ وَأَبْناوَُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشيرتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةً تَخْشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَونَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولهِوَجِهاد في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِي اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدي الْقَومَ الْفاسِقينَ) .(1)

وقال سبحانه في وصف الموَمنين:(فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزُّروهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أنْزِلَمَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ) .(2)

فالآية الكريمة تأمر بأُمور أربعة:

1. الاِيمان به.

2. تعزيره.

3. نصرته.

4. اتباع كتابه وهو النور الذي أُنزل معه.

___________

1 ـ التوبة/24.

2 ـ الاَعراف/157.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 75

وليس المراد من تعزيره هو نصرته، لاَنّه قد ذكره بقوله: «نصروه» وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما انّه نبيُّ الرحمة والعظمة، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمها، كما انّ الاِيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة.

وعلى هذا فحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يمت إليه بصلة أصل إسلامي يجب أن يهتم به المسلمون ويطبقونه في حياتهم.

ولاَجل كرامة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنزلته يدعو الذكر الحكيم إلى تعظيمه في المجالس وحفظ كرامته ويقول:

(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصواتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبىِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون) .(1)

وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذينَ يَغُضُّونَ أَصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقوى) .(2)

وقال: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِبَعْضِكُمْ بَعضاً) .(3)

فأي إجلال أبلغ من هذا، وأي تقدير أورع من هذا التقدير.

____________

1 ـ الحجرات/2.

2 ـ الحجرات/3.

3 ـ النور/63.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 76

وليس الذكر الحكيم وحده هوالداعي والآمر بحب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل السنّة النبوية تضافرت على لزوم حبه.

قال رسول اللّه: «لا يوَمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين».(1)

وقد تواتر مضمون هذه الرواية عن النبي ص، فمن أراد فليرجع إلى الكتب المعدة لهذا الغرض.(2)

 

مظاهر الحب

إنّ لهذا الحب مظاهر ومجالي، إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الاِنسان وتصرفاته، بل من خصائصه أن يظهر أثره على سلوك الاِنسان وملامحه.

1. حب اللّه ورسوله لا ينفك عن اتّباع دينه والاستنان بسنّته والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه. و الاِتّباع أحد مظاهرالحبّ قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(3) فمن ادّعى الحب في النفس وخالف في العمل، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.

___________

1 ـ صحيح البخاري:1/8، باب حب الرسول من الاِيمان من كتاب الاِيمان.

2 ـ كنز العمال:2/126.

3 ـ آل عمران/31.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 77

وقد نسب إلى الاِمام الصادق (عليه السلام) البيتان التاليتان:

تعصي الاِله وأنت تظهر حبَّه هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لاَطعته انّ المحب لمن يحب مطيع (1)

2. ومن مظاهر هذا الحب، صيانة آثارهم وحفظ معالمهم والعناية بكلّ ما يتصل بهم حتى الاحتفاظ بما صلوا فيه من ألبسة أوشربوا منه الماء من أوان أو استخدموه من أشياء، وتشييد مراقدهم، وتعمير قبورهم... كلّ ذلك انعكاس طبيعي لهذا الحب الكامن في النفوس والود المتمكن في القلوب.

وليس هذا أمراً مختصاً بالمسلمين، بل الاَُمم المتحّضرة المعتزة بماضيها وتاريخها، تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخي باق من الماضي وصيانة مراقد شخصياتهم العلمية.

وأخيراً نقول: لا شكّ انّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الاِسلامية لا سيما في مهد الاِسلام مكة ومهجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة المنوّرة، نتائج ومضاعفات خطيرة على الاَجيال اللاحقة التي سوف لا تجد أثراً لوقائع التاريخ الاِسلامي، وربما توَول إلى الاعتقاد بأنّ الاِسلام قضية مفتعلة وفكرة مبتدعة ليس لها جذور تاريخية، تماماً كما أصبحت قضية السيد المسيح (عليه السلام) في نظر الغرب قضية اسطورية حاكتها أيدي البابوات والقساوسة، لعدم

___________

1 ـ سفينة البحار، مادة حب.

-------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 78

وجود آثار ملموسة تدل على أصالة هذه القضية ووجودها التاريخي.

إيضاح حديث أبي هياج

بقي هنا سوَال وهو انّ مقتضى هذه الاَدلة وإن كان هو جواز البناء على القبور لكن الحديث العلويّ يمنعنا عنه وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هياج الاَسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّسويته.(1)

والجواب: انّ الحديث يدل على لزوم تسطيح القبور مقابل تسنيمها ولا صلة له ببناء القبور أو البناء عليه وذلك انّ لفظة «التسوية» تستعمل في معنيين:

1. تطلق ويراد منها مساواة شيء بشيء فعندئذٍ تتعدى إلى المفعول الثاني بحرف التعدية كالباء قال سبحانه: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين) .(2)

وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة: (يَومَئِذٍ

____________

1 ـ صحيح مسلم:3/60،باب الاَمر بتسوية القبر؛ و السنن للترمذي:2/256، باب ما جاء في تسوية القبور.

2 ـ الشعراء/98.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 79

يَوَدُّالَّذينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُول لَو تُسَوّى بِِِهِمُ الاََرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَديثاً)(1) أي يودّون أن يكونوا تراباً أو أمواتاً تحت الاَرض.

2. تطلق ويراد منها ما هو وصف لنفس الشيء لا بمقايسته إلى شيء آخر، فعندئذٍ تكتفي بمفعول واحد.

قال سبحانه: (الَّذي خَلَقَ فَسَوّى) .(2)

وقال سبحانه: (بَلى قادِرينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) .(3)

ففي هذين الموردين تقع التسوية وصفاً للشيء لا باضافته إلى غيره.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الحديث فنقول:

لو أراد من قوله: سويته هو مساواة القبر بالاَرض ـ كمساواة شيء بشيء ـ يلزم أن يتّخذ مفعولاً ثانياً بحرف الجر كأن يقول سويته بالاَرض أي جعلتهما متساويين والمفروض انّه اقتصر بمفعول واحد دون الثاني.

فتعين انّ المراد هو الثاني أي كون المساواة وصفاً لنفس الشيء وهو القبر ومعناه عندئذٍ تسطيح القبر في مقابل تسنيمه،

____________

1 ـ النساء/42.

2 ـ الاَعلى/2.

3 ـ القيامة/4.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 80

وبسطه في مقابل اعوجاجه، وهذا هو الذي فهمه شراح الحديث، وبما انّ السنّة هي التسطيح، والتسنيم طرأ بعد ذلك، أمر عليّ (عليه السلام) بأن يكافح البدعة ويسطح كلّ قبر مسنم.

وممّا يوَيد انّ المراد هو تسطيح القبر انّ مسلم في صحيحه عنون الباب هكذا «باب الاَمر بتسوية القبر» ثمّ نقل رواية عن ثمامة انّه قال: كنّا مع فضالة بن عبيد في أرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي. قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بتسويته ثمّ أورد بعده حديث أبي الهياج المتقدم.(1)

وقد فسره أيضاً بما ذكرنا الفقيه القرطبي حيث قال: قال علماوَنا ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها.(2)

____________

1 ـ صحيح مسلم: 3/61، باب الاَمر بتسوية القبر.

2 ـ تفسير القرطبي: 10/380.

 ----------------------------------------------

* أخذنا هذا المقطع من كتاب (بحوث قرآنية في التوحيد والشرك) للعلامة الشيخ جعفر السبحاني،  ص: 69- 80.

 

بناء المساجد على القبور  والصلاة فيها *

 

الصفحة 81

إنّ بناء المساجد على القبور أو عندها والصلاة فيها مسألة فقهية فرعية لا تمتُّ إلى العقائد بصلة.

فالمرجع في هذه المسائل هم أئمّة المذاهب وفقهاء الدين يستنبطون حكمه من الكتاب والسنّة، وليس لنا تكفير أو تفسيق واحد من الطرفين إذا قال بالجواز أو بعدمه، وكم من مسألة فقهية اختلفت فيها آراء الفقهاء والمجتهدين، ونحن بدورنا نعرض المسألة على الكتاب والسنّة لنستنبط حكمها من أوثق المصادر الفقهية.

الذكر الحكيم يشرح لنا كيفية عثور الناس على قبور أصحاب الكهف وانّهم ـ بعد العثور ـ اختلفوا في كيفية تكريمهم وإحياء ذكراهم والتبرّك بهم على قولين: فمن قائل: يُبنى على قبورهم بنيان ليُخلَد ذكراهم بين الناس.

إلى قائل آخر: يبنى على قبورهم مسجداً يصلّى فيه.

وقد حكى سبحانه كلا الاقتراحين من دون تنديد بواحد

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 82

منهما، قال سبحانه: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا انَّ وَعْدَ اللّهِحَقٌّ وَانَّ السّاعَةَ لا رَيْبَفيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ربُّهُمْ أَعْلُمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) .(1)

قال المفسرون: إنّ الاقتراح الاَوّل كان لغير المسلمين ويوَيده قولهم في حقّ أصحاب الكهف:(رَبّهم أَعْلَمُ بِهِم) وهو ينمَّ عن اهتمام بالغ بحالهم ومكانتهم فحوَّلوا أمرهم إلى ربّهم.

وأمّا الاقتراح الثاني فنفس المضمون (اتخاذ قبورهم مسجداً) شاهد على أنّ المقترحين كانوا هم الموَمنين، وما اقترحوا ذلك إلاّ للتبرّك بالمكان الذي دفنت فيه أجساد هوَلاء الموحدين.

والقرآن يذكر ذلك الاقتراح من دون أن يعقب عليه بنقد أورد وهو يدل على كونه مقبولاً عند مُنزل الوحي.

قال الطبري في تفسير الآية: إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع أُناساً كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فرقاً ورأى أنّه حيران، فقام مُسْنِداً ظهره إلى جدار من جُدُر المدينة، ويقول في نفسه: واللّه ما أدري ما هذا أمّا عشية أمس فليس على الاَرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف، ثمّ قال في نفسه:

____________

1 ـ الكهف/21.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 83

لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف.(1)

 

سيرة المسلمين في البناء على قبور الصالحين

إنّ سيرة المسلمين تكشف عن جواز بناء المساجد على قبور الصالحين الذين يُتبرّك بهم ولهم مكانة عالية في قلوبهم، ويدل على ذلك الاَُمور التالية:

أ. دفن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته الذي فيه وكان في جوار المسجد النبوي ولما كثر المسلمون وازداد عددهم وضاق المسجد بهم أدخلوا الجانب الشرقي ـ الذي كان فيه بيوت أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والبيت الذي دفن فيه ـ في المسجد النبوي على نحو يقف المصلون أطراف القبر من الجوانب الاَربعة ويحيطون به.

يقول الطبري في حوادث سنة 88: إنّه في شهر ربيع الاَوّل من هذه السنة قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه، باشتراء الاَملاك المحيطة به، فأخبر عمر الفقهاء العشرة وأهل المدينة بذلك، فحبذوا بقاء تلك الحُجُر على حالها ليعتبر بها المسلمون، ويكون أدعى لهم إلى الزهد اقتداءً بنبيهم، فكاتب ابن عبد العزيز الوليد في ذلك، فأرسل إليه يأمره بالخراب،

____________

1 ـ تفسير الطبري:15/145.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 84

وتنفيذ ما ذكره في كتابه الاَوّل، فضجَّ بنو هاشم وتباكوا، ولكن عمر نفّذ ما أمره به الوليد، فأدخل الحجرة النبوية (حجرة عائشة) في المسجد، فدخل القبر في المسجد وسائر حجرات أُمّهات الموَمنين وقد بني عليه سقف مرتفع كما أمر الوليد.(1)

فإذا كان هذا العمل بمرأى ومسمع من فقهاء المدينة العشرة والمسلمين عامة، وفي مقدم التابعين منهم علي بن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقر (عليهم السلام)اللّذين لم يشك أحد في زهدهما وعلمهما وعرفانهما. فهو أوضح دليل على جواز إقامة المسجد عند قبور الاَنبياء والصالحين والصلاة فيه.

وقد أقر هذا العمل كلّالتابعين وجاء بعدهم إمام دار الهجرة مالك بر أئمّة المذاهب الاَربعة فلم يعترضوا عليه بشيء.

ب. يقول السمهودي في حقّ السيدة فاطمة بنت أسد أُمّ الاِمام أمير الموَمنين علي (عليه السلام): فلمّا توفيت خرج رسول اللّه فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة.(2)

والعبارة تدل على أنّهم بنوا المسجد بعد تدفينها.

وقال في موضع آخر: إنّ مصعب بن عمير وعبد اللّه بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزة.(3)

____________

1 ـ راجع تاريخ الطبري:5/222؛البداية والنهاية:8/65.

2 ـ وفاء الوفاء:3/897.

3 ـ المصدر السابق:3/922.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 85

ج. انّ السيدة عائشة قضت حياتها في بيتها وصلّت فيه تمام عمرها، ولم يكن بينها وبين القبر أيّ جدار إلى أن دفن عمر فبني جدار حال بينها وبين القبور الثلاثة.(1)

د. روى البيهقي انّ فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تذهب إلى زيارة قبر عمها حمزة فتبكي وتصلي عنده.(2)

أخرج الحاكم، عن سليمان بن داود، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليهم السلام)، عن أبيه، انّ فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كانت تزور قبر عمها حمزة كلّ جمعة فتصلي وتبكي عنده.

قال الحاكم: وهذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات. وأقرّه الذهبي عليه ونقله البيهقي في سننه.(3)

وهذا يدل على بناء المسجد على قبر حمزة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصلاة فيه.

هـ. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في معراجه الذي بدأ به من المسجد الاَقصى ـ نزل في المدينة، وطور سينا وبيت لحم، وصلـّى فيها، فقال جبرئيل: صليت في «طيبة» وإليها مهاجرتك، وصليت في طور سينا حيث كلم اللّه موسى، وصليت في بيت لحم حيث ولد المسيح.(4)

____________

1 ـ وفاء الوفاء:2/541.

2 ـ السنن الكبرى: 4/78.

3 ـ مستدرك الحاكم:1/377.

4 ـ الخصائص الكبرى:1/154.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 86

هل هناك فرق بين المدفن والمولد، مع انّ الصلاة في كلٍ، لغاية واحدة وهي التبرّك بالاِنسان المثالي الذي مسّ جسده الطاهر، ذلك التراب بداية عمره أو نهايته؟!

وبما انّ الكتاب ـ مضافاً إلى السيرة المستمرة بعد رحيل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا ـ دليل قطعي، يكون محكماً يوَخذ به، وما دلّ على خلافه، يكون متشابهاً، فيرد إلى المحكم ويفسره بفضله.

ربما يتراءى من بعض الروايات عدم جواز اتخاذ قبور الاَنبياء مساجد.

فروي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

وفي رواية أُخرى: لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

وفي رواية ثالثة: ألا وإنّ من كل قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد.(1)

ولنا مع هذه الاَحاديث وقفة قصيرة، وذلك لاَنّ تاريخ اليهود لا يتفق مع مضامين تلك الروايات، لاَنّ سيرتهم قد قامت على قتل

____________

1 ـ للوقوف على مصادر هذه الاَحاديث راجع صحيح البخاري: 2/111 كتاب الجنائز؛ سنن النسائي:2/871، كتاب الجنائز؛ صحيح مسلم:2/68، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 87

الاَنبياء وتشريدهم وإيذائهم إلى غير ذلك من أنواع البلايا التي كانوا يصبّونها على أنبيائهم.

ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَولَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقيرٌ وَنَحْنُ أَغْنياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الاََنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَريق) .(1)

وقوله سبحانه: (قُلْ قَدْجاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ) .(2)

وقال سبحانه: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الاََنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ...) .(3)

أفتزعم انّ أُمّة قتلت أنبياءها في مواطن مختلفة تتحول إلى أُمّة تشيد المساجد على قبور أنبيائها تكريماً وتبجيلاً لهم.

وعلى فرض صدور هذا العمل عن بعضهم، فللحديث محتملات أُخرى غير الصلاة فيها والتبرّك بصاحب القبر وهي:

أ. اتخاذ القبور قبلة.

ب. السجود على القبور تعظيماً لها بحيث يكون القبر مسجوداً عليه.

____________

1 ـ آل عمران/181.

2 ـ آل عمران/183.

3 ـ النساء/155.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 88

ج. السجود لصاحب القبر بحيث يكون هو المسجود له، فالقدر المتيقن هو هذه الصور الثلاث لا بناء المسجد على القبور تبرّكاً بها.

والشاهد على ذلك انّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حسب بعض الروايات يصف هوَلاء بكونهم شرار الناس.

أخرج مسلم في كتاب المساجد: انّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رسول اللّه: (صلى الله عليه وآله وسلم)إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بني على قبره مسجداً، وصوّروا فية تلك الصور، أُولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة.(1)

إنّ وصفهم بشرار الخلق يميط اللثام عن حقيقة عملهم إذ لا يوصف الاِنسان بالشر المطلق إلاّ إذا كان مشركاً ـ و إن كان في الظاهر من أهل الكتاب ـ قال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدّوابّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذينَ لا يَعْقِلُون) .(2)

وقال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوابّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُوَْمِنُونَ) .(3)

وهذا يعرب عن انّ عملهم لم يكن صرفَ بناء المسجد على القبر والصلاة فيه، أو مجرد إقامة الصلاة عند القبور، بل كان عملاً مقروناً بالشرك بألوانه وهذا كما في اتخاذ القبر مسجوداً له أو

____________

1 ـ صحيح مسلم:2/66، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.

2 ـ الاَنفال/22.

3 ـ الاَنفال/55.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 89

مسجوداً عليه أو قبلة يصلى عليه.

قال القرطبي: وروى الاَئمّة عن أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا تصلّوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها «لفظ مسلم» أي لا تتخذّوها قبلة فتصلّوا عليها أو إليها كما فعل اليهود و النصارى فيوَدي إلى عبادة من فيها.(1)

إنّ الصلاة عند قبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هو لاَجل التبرّك بمن دفن، ولا غروَ فيه وقد أمر سبحانه الحجيج باتخاذ مقام إبراهيم مصلى قال سبحانه: (وَاتَّخِذوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصلّى) .(2)

إنّ الصلاة عند قبور الاَنبياء كالصلاة عند مقام إبراهيم غير انّ جسد النبي إبراهيم (عليه السلام) لامس هذا المكان مرّة أو مرات عديدة، ولكن مقام الاَنبياء احتضن أجسادهم التي لا تبلى أبداً.

هذا وانّ علماء الاِسلام فسروا الروايات الناهية بمثل ما قلناه.

قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الاَنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثاناً، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك. فأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبّرك بالقرب منه لا للتعظيم ولا

____________

1 ـ تفسير القرطبي:10/38.

2 ـ البقرة/125.

--------------------------------------------------------------------------------

الصفحة 90

للتوجه ونحوه، فلا يدخل في الوعيد المذكور.(1)

وقال السندي شارح سنن النسائي: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، أي قبلة للصلاة ويصلون إليها، أو بنوا مساجد يصلون فيها، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر.

إلى أن يقول: يحذر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها.(2)

____________

1 ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري:1/525، طبعة دار المعرفة؛ وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري:2/437، باب بناء المسجد على القبور.

2 ـ سنن النسائي:2/41.

 ----------------------------------------------

* أخذنا هذا المقطع من كتاب (بحوث قرآنية في التوحيد والشرك) للعلامة الشيخ جعفر السبحاني،  ص: 81- 90.

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى