شبهات و رودود

 

الصفحة الرئيسية

ما هو الجديد

اتصل بنا

 

الصفحة رقم 1  2  3  4  5  6 7

 

هل شدِّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة حرام؟

لم يناقش أحد في مشروعية الزيارة، بل الاتفاق حاصل على استحبابها وكونها قربة، لما ثبت فيها من النص والسيرة والاَثر، وإن ناقش بعضهم في النص، فإنه لم ينكر أصل الزيارة ومشروعيتها، وإنَّما وقع من بعضهم التمسك بشبهات داحضة تتصل ببعض الشؤون المتعلقة بالزيارة، وتنحصر هذه الشبهات في ثلاثة:

الشبهة الاَولى: حرمة شدِّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة:
لقد ثبت في الفصول الثلاثة المتقدمة أن زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته في نفسها مستحبة، وأنها من القربات:
أولاً: لاَنّها داخلة في عموم زيارة القبور التي حثت عليها السنة النبوية المطهّرة.
ثانياً: لما ورد فيها على نحو الخصوص من تأكيد الفضيلة والاستحباب.
فكيف إذا ما توقفت الزيارة على السفر؟
وهل يجوز السفر من مكان بعيد بقصد زيارته صلى الله عليه وآله وسلم بالمرتبة الاَولى؟
ليس يخفى أن بين الفعل وبين المقدمة التي يتوقف عليها الفعل ملازمة عقلية، فلا يمكن أن يتحقق الحج ما لم يتم السفر إلى ديار الحج.
وفي الاَحكام الواجبة يذهب أكثر الفقهاء إلى أن مقدمتها واجبة أيضاً، وهو

المراد بالقاعدة الفقهية المشهورة: «ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب»(1). أما الذين لا يرون إفراد المقدمة بحكم، فلاَنهم ذهبوا إلى أنه بين المقدمة وذي المقدمة ملازمة عقلية محضة لا تستدعي جعل أمر مولوي(2).
والملازمة العقلية ثابتة بين المندوب وملازمه، من هنا ذهب أكثر الفقهاء إلى أن المقدمة التي يتوقف عليها الحكم المستحب هي مستحبة أيضاً، تبعاً للقول بأن المتلازمين تلازم العلّة والمعلول يجب أن يأخذا حكماً متماثلاً.. وأدنى ما يقال إن الملازم للمندوب لابد أن يكون مباحاً، فلايمكن أن يكون محرماً أو مكروهاً وهو شرط لازم لاِتيان المستحب.
ولما كانت زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستحبة في نفسها، وقد توقفت على السفر إلى حيث مرقده الشريف، فلابد أن يكون السفر بقصد الزيارة مباحاً، إن لم يكن مستحباً هو الآخر.
ومن ناحية ثانية: فإن النصوص الواردة في الزيارة تثبت أن السفر بقصد الزيارة قربة، أيضاً، ذلك:
1- لاَنّ النص على الزيارة يتضمن السفر أيضاً، إذ الزيارة تستدعي الانتقال إلى مكان المزور؛ قريباً كان أو بعيداً، فالزيارة إذ كانت تعني الحضور عند المزور فقد استدعت الانتقال إلى المكان الذي هو فيه، وهو السفر، وإذا كانت الزيارة تعني الانتقال إلى المزور بقصد الحضور عنده؛ فالسفر بهذا القصد هو المنصوص عليه إذن في كل ما تقدم من الاَحاديث الحاثة على الزيارة.
2 ـ ولاَنّ السفر بقصد الزيارة هو ظاهر الطلب وموضع الحث في بعض النصوص:
ـ كما في قوله تعالى: (
ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابّاً رحيماً ) فمجيؤهم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو متعلِّق التوبة والرحمة، فلم يطلب منهم الاستغفار وحده، بل طلب أولاً مجيئهم إلى الرسول ثمَّ الاستغفار بحضرته ليستغفر لهم هو صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا أمر صريح بالسفر إلى الرسول، وقد رأينا الاتفاق على أن مشروعيته ثابتة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كانت ثابتة في حياته.
ـ وكما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «من جاءني زائراً لا تُعْمِلُهُ حاجة إلاّ زيارتي» فإنّه صريح في السفر بقصد زيارته صلى الله عليه وآله وسلم ، لا يشترك معها قصد آخر.
ـ وهكذا كلُّ حديثٍ يقول فيه صلى الله عليه وآله وسلم : «من زارني ـ أو ـ من زار قبري» فإنّه عامٌّ يدخل فيه القريب والبعيد.
هذه المقدمة كافية لوحدها في إثبات بطلان ما تمسك به البعض في تحريم السفر بقصد الزيارة، إضافةً إلى ما تنطوي عليه شبهتهم من تهافت واضح..
وهي شبهة قائمة على فهم حرفي خاطئ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الاَقصى».
فقال هؤلاء: هذا يعني أنّ السفر إلى غير هذه الاَماكن الثلاثة حرام! وأنّ السفر بأي قصد غير قصد هذه الاَماكن الثلاثة تعظيماً، والصلاة فيها حرام!!
قال بهذا نفر من المفرطين في السطحية في فهم النص، فلما انتصر له ابن تيمية أصبح هو مذهب دعاة السلفية حتى اليوم..(3).
وهذه الشبهة مردودة؛ أولاً: بما تقدم في الفصول السابقة. وثانياً: بالمقدمة الآنفة الذكر. وثالثاً: بالحديث الذي تمسكوا به نفسه.
فالحديث يقول: «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد». والاستثناء هنا يعود إما إلى المساجد، فيكون المعنى: لا يجوز شدّ الرحال لشيء من المساجد تعظيماً لها، إلاّ المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث.. وهذا هو الراجح، لاَنه لا يتعارض مع أوامر الشريعة، أو حثها على شدّ الرحال إلى أماكن كثيرة وبمقاصد كثيرة، كما لا يتعارض مع واقع السيرة النبوية الشريفة وسيرة المسلمين، كما سيأتي. أو أنه استثناء من شدّ الرحال، فيكون المعنى: لا يجوز شدّ الرحال إلى شيء من الاَماكن إلاّ المساجد الثلاثة.. وهذا هو الذي تمسك به أصحاب هذه الشبهة. وليس لهذا الكلام معنى إلاّ أن يراد به قصد مكان من الاَماكن تعظيماً له بذاته، ولذلك جعلوا النذر بالسفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة ليس ملزماً..
وعلى هذا المعنى سوف يخرج كل سفر إلى أي مكان من الاَماكن، لا بقصد تعظيمه بذاته، بل لخصوصية فيه، من حكم النهي.. فشدّ الرحال إلى مكان ما لغرض طلب العلم، ليس هو تعظيماً للمكان المقصود بذاته.. وشدّ الرحال إلى مواقع الجهاد أو لحماية الثغور أو لصلة الرحم ونحو ذلك، ليس فيه شيء من تعظيم الاَماكن المقصودة، فليست هذه الاَماكن هي علّة السفر لعظمة شأنها، وإنَّما هي غاية السفر لخصوصيات فيها.

وهكذا يقال في شأن الزيارة، فلم يكن موقع القبر هو علّة السفر، وإنّما علّة السفر هو من فيه، فهو بهذا خارج أيضاً عن حكم النهي. ولا يمكن قبول أي تفسير آخر للحديث يحرّم السفر إلى أي مكان غير المساجد الثلاثة بأي قصد كان، فالسفر في طلب العلم قد يرقى إلى الوجوب الكفائي أحياناً، وكم شدّ الرحال تابعون كبار في طلب حديث واحد عند رجل في مكان ناءٍ.. والهجرة قد تجب أحياناً، كما كان في الهجرة من مكة إلى المدينة، ولقد هاجرت أسرة ابن تيمية نفسه من حرّان إلى دمشق فراراً بحياتهم من المغول.. وهكذا القول مع الجهاد وسدّ الثغور وصلة الرحم، وإسداء النصح، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من المقاصد التي حثت عليها الشريعة.
وهذا ما يفسّر ورود الحديث بصيغة أُخرى ليس فيها نهي ولا تخصيص، فقد جاء في رواية معمر عن الزهري: «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد» أخرجه مسلم
(4).
وقد قال بعض العلماء: الصحيح إباحة السفر لزيارة القبور والمشاهد، وجواز القصر فيه
(5)، لاَن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً، وكان يزور القبور، وقال: «زوروها تذكّركم الآخرة». وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تُشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد» فيحمل على نفي الفضيلة، لا على التحريم، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر، ولا يضرّ انتفاؤها(6).

والمراد بنفي الفضيلة هو أن المساجد الاَخرى متساوية في الفضل، فلا معنى لتفضيل بعضها على بعض.
وقال الغزالي في آداب السفر: القسم الثاني أن يسافر لاَجل العبادة، إما لجهاد، أو حج.. ويدخل في جملته زيارة قبور الاَنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاَولياء، وكل من يُتبَرّك بمشاهدته في حياته يُتبرك بزيارته بعد وفاته. ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله عليه السلام : «لا تُشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الاَقصى» لاَن ذلك في المساجد، فإنها متماثلة بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الاَنبياء والاَولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله تعالى.
قال: أما البقاع فلا معنى لزيارتها سوى المساجد الثلاثة، وسوى الثغور للرباط بها، فالحديث ظاهر في أنه لا تشدّ الرحال لطلب بركة البقاع إلاّ إلى المساجد الثلاثة
(7).
ثمَّ تمسّك أصحاب هذه الشبهة بأنّ السلام والدعاء يصل الموتى من بعد، فلم يبقَ في الزيارة إلاّ قصد الاَماكن، وهو منهي عنه في الحديث.
وهذا مردود؛
أولاً: بأن الزائر لا يقصد البقعة بذاتها، وإنَّما يقصد زيارة مَنْ فيها.
وثانياً: هو مردود أيضاً بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يخرج إلى البقيع مراراً، كما تقدم في حديث عائشة، ويخرج إلى قبور الشهداء خارج المدينة، ليسلّم عليهم
ويدعو لهم، وقد كان يكفيه ذلك من مكانه لو كان الاَمر كما يقولون، فلِمَ كان يخرج إلى القبور ويقف عندها، ويأمر أصحابه بزيارتها؟
هذا وقد وضع أصحاب هذه الشبهة فتاوى مختلفة، كشف عنها السبكي وكشف زورها
(8).

_________________

(1) راجع: شرح القواعد الفقهية| أحمد الزرقا :486، والقواعد الفقهية| علي أحمد الندوي :345.
(2) الاَصول العامة للفقه المقارن| محمد تقي الحكيم: 67.

(3) انظر: كتاب الزيارة| ابن تيمية :18 ـ 21، المسألة الثانية.

(4) صحيح مسلم ـ كتاب الحج ـ باب لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد.
(
5) اي قصر الصلاة، إذ لا يجوز القصر في الاَسفار المحرمة.
(
6) المغني| ابن قدامة 2 : 103.

(7) إحياء علوم الدين 2 : 398 ـ كتاب آداب السفر ـ ط دار الوعي بحلب.

(8) راجع شفاء السقام :126 ـ 127.

الشبهة الثانية: إنّ السفر بقصد الزيارة بدعة!?

وهي مترتِّبة على الشبهة الاَولى..
قال ابن تيمية، موهماً كعادته، أنه ينقل عن أهل العلم إجماعهم، (قالوا: ولاَن السفر إلى زيارة قبور الاَنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنّة ولاِجماع المسلمين).
ثمَّ أسند قوله هذا إلى ابن بطة وحده في (الاِبانة الصغرى).
وسيسوقه هذا القول إلى التكذيب بكل الاَحاديث التي وردت في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد صنع ذلك، فقال: (ليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديثاً ثابتاً أصلاً)
(1) وقال أيضاً: (والاَحاديث الكثيرة المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة، بل موضوعة، ولم يرو الاَئمة ولا أصحاب السنن المتبعة كسنن أبي داوود والنسائي ونحوهما فيها شيئاً)(2).

وفيه:
1- إنّ الاَحاديث التي مرّ ذكرها في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وحتى القسم الاَخير منها لم يقع في إسانيدها من هو متهم بالكذب والوضع، فكيف يقال انّها كلها موضوعة؟!
2 ـ لقد عاد ابن تيمية نفسه إلى كتب السنن المتبعة، ولابدّ له أن يعود فهي مبثوثة بين أيدي الناس، وليعترف أن الحديث في زيارته صلى الله عليه وآله وسلم قد أخرجه الدارقطني وابن ماجة!
(3) وفيه ردّ لقوله الاَول.
3 ـ ومن كلام ابن تيمية نفسه في كتاب آخر له نأتي على نقيض ما اعتمده هنا، ينفيه ويثبت ضدّه، فهو حين كان في معرض الحديث عن موضع رأس الحسين عليه السلام وتخطئة من يذهب إلى أنه دفن في عسقلان أو القاهرة، قال: (فإذا كانت تلك البقع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها، وإنَّما كانوا ينتابون كربلاء لاَن البدن هناك، كان دليلاً على أن الناس في ما مضى لم يكونوا يعتقدون أن الرأس في شيء من هذه البقاع). ثمَّ قال: (ولكن الذي اعتقدوه هو وجود البدن في كربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى أنّ في مسائله
(4): (مسائل في ما يُفعل عند قبره) ـ أي قبر الحسين عليه السلام ـ ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير في زيارة المشاهد)(5).
4 ـ في اعتماد ابن تيمية على ابن بَطّة مسألتان:

الاَولى: ان لابن بَطّة كتابه المعروف بـ(الاِبانة الكبرى) وقد أثبت فيه خلاف ما نقله عنه ابن تيمية في حق قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، نقله عنه السبكي(6).
والثانية: إن ابن بَطّة وإن كان قد وصفوه بالصلاح غير أنّهم وصفوه أيضاً بالضعف والاضطراب الكثير. قال الذهبي: لابن بَطّة مع فضله أوهام وغلط.. وقال: قال عبيدالله الاَزهري: ابن بطة ضعيف، وعندي عنه (معجم البغوي) ولا أُخرج عنه في الصحيح شيئاً.
ونقل الخطيب البغدادي عن الاَزهري قوله في ابن بطة: ضعيف، ضعيف، ضعيف، ليس بحجة
(7).
ثمَّ ان ابن تيمية لم يذكر أحداً من الذين قال عنهم أنهم «قالوا» غير ابن بطة هذا!!
ومن ناحية أُخرى فقد بقي لابن تيمية والقائلين بقوله في الموضوع حجتان:
الاَولى في غاية الطرافة؛ إذ يقول: إنّ النبي ليلة الاِسراء لم يذهب لزيارة قبر إبراهيم الخليل!!
فهل في هذا ما يحتجّ به على نفي مشروعية الزيارة؟ وهل كل شيء لم يفعله النبي في رحلة الاسراء لم يعد مشروعاً؟ فهو صلى الله عليه وآله وسلم في رحلته تلك لم يدعُ أحداً إلى عبادة الله تعالى! ولا كسر صنماً! ولا وصل رحماً، ولا عاد مريضاً، ولا دخل مسجداً!! فعل يحتج بذلك ذو منطق؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شغله، في ما هو فوق ذلك كلّه، في رحلة قاده فيها جبرئيل إلى حيث قاده، ثمَّ عاد به إلى مضجعه ولمّا يبرد بعد.

انّها واحدة من أساليب التهويل والاستحواذ على السامع والقارئ من المقلّدين خاصّة.
والثانية داحضة هي الاَخرى؛ وهي تمسكه بالحديث «لا تجعلوا قبري عيداً» وقد اعتمد فيه الرواية المنسوبة إلى الحسن بن الاِمام الحسن عليه السلام ، وقد رأى رجلاً عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو له ويصلّي عليه، فقال له: لا تفعل فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم فإنّ صلاتكم تبلغني».
وعن هذا الخبر قال الذهبي: مرسل
(8).
وتقدّم مثله عن الاِمام علي بن الحسين عليهما السلام ، وفي إسناده رجل مجهول، وقد تقدم الحديث فيه.
وحديث «لا تجعلوا قبري عيداً» أخرجه أبو داود في سننه
(9)، وفي إسناده عبدالله بن نافع الصائغ المخزومي، قدح فيه غير واحد من أهل الجرح والتعديل:
قال فيه أحمد بن حنبل: لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفاً فيه، ولم يكن في الحديث بذاك.
وقال البخاري: في حفظه شيء، وقال أيضاً: يُعرف حفظه ويُنكر. ومثله قال أبو حاتم الرازي، وزاد: هو ليّن، ليس بالحافظ.
ووثقه يحيى بن معين.. وقال أبو زرعة: لا بأس به.. ومثله قال النسائي.
وقال ابن عدي: روى عن مالك غرائب. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان

صحيح الكتاب، وإذا حدّث من حفظه ربّما أخطأ.. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم..(10) وهكذا اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، يظهر منه أن الغالب عليه الضعف والخطأ في الحفظ، لكنه لم يتهم بوضع وكذب.
والنتيجة أنّ هذا الحديث لم يرد بطريق صحيح، فلا معنى لاحتجاج ابن تيمية به وهو يرد أحاديث الزيارة بدعوى أنها لم ترد بطرق صحيحة.
وعند قبول الحديث لكون رواته غير متهمين بالوضع، مع أنه ورد في أكثر من طريق وان اختلف اللفظ يسيراً، فلا يصح تفسيره منفرداً عن الاَحاديث الاَخرى المتعلقة بموضوع زيارة قبره الشريف وزيارة سائر القبور، فالاِجتزاء سيؤدي إلى تشويه الحقيقة، وظهورها بمظاهر متعددة، والحكم الموضوعي يقتضي النظر والتدبر في ما يتعلق بموضوع البحث من حديث وأثر للخروج بالتصور الجامع للموضوع وأبعاده، عندئذٍ لا يصح تفسير «العيد» هنا بمطلق الوفود او اجتماع الناس عند القبر لقصدهم زيارته، مع وجود الاَحاديث التي تحث على الزيارة، وتأييد ذلك بالاَثر الثابت.. وقد تقدم الجمع بين بعض هذه الاَحاديث والآثار عند مناقشة الخبر الوارد عن الاِمام علي بن الحسين عليهما السلام بهذا الشأن.
ولهذا أيضاً أورد بعض العلماء تفاسير أُخرى للمراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تجعلوا قبري عيداً»..
ـ أن يكون المراد الحث على كثرة زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم وأن لا يهمل حتى لا يزار إلاّ في بعض الاَوقات، كالعيد الذي لا يأتي في العام إلاّ مرّتين.. ويؤيده ما جاء في الحديث نفسه: «ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً» أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم
حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلّى فيها.
ـ أو أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلاّ فيه، كما هو الحال في بعض المشاهد التي جعل الناس يوماً معيناً لزيارتها، وزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها يوم بعينه، بل أي يوم كان.
ـ أو أن يكون المراد أن لا يجعل كالعيد في العكوف عليه والاجتماع وغير ذلك مما يُعمل في الاَعياد، بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثمَّ ينصرف عنه
(11).
ـ أو أن الحديث في غير ذلك، إذ إنّ الذي جاء في حديث الحسن المثنّى: «لا تجعلوا بيتي عيداً» ولم يذكر القبر، والقرينة على ذلك ما جاء بعده «ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً»
(12).
ولاَجل التناقض بين ما يفهم من حديث الحسن المثنى وهو الفهم الذي اعتمده المنكرون للزيارة، وبين ما ورد في الزيارة من الحديث والاَثر، علّق الذهبي على حديث الحسن السابق الذكر قائلاً:
ما استدلّ حَسَنٌ في فتواه بطائل من الدلالة، فمن وقف عند الجمرة المقدّسة ذليلاً، مُسَلِّماً مصلياً على نبيه، فيا طوبى له، فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلّل والحب، وقد أتى بعبادة زائدة على من صلّى عليه في أرضه أو في صلاته، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه، والمصلّي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، فمن صلّى عليه واحدة صلى الله عليه عشراً، ولكنّ من زاره ـ صلوات الله عليه وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر، أو فعل ما لا يُشرع، فهذا فعل حسناً وسيئاً، فيُعَلَّم برفق، والله غفور رحيم.
فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلاّ وهو محب لله ولرسوله، فحبّه المعيار الفارق بين أهل الجنّة وأهل النار.
فزيارة قبره من أفضل القُرَب، وشدّ الرحال إلى قبور الاَنبياء والاَولياء، لئن سلّمنا أنّه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه: «لا تُشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد» فشدّ الرحال إلى نبيّنا مستلزم لشدّ الرحل إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلى حجرته إلاّ بعد الدخول إلى مسجده، فليبدأ بتحية المسجد، ثمَّ بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله ذلك وإيّاكم، آمين
(13).

_________________

(1) كتاب الزيارة :12 ـ 13 ـ المسألة الاَولى.
(
2) كتاب الزيارة :38 ـ المسألة الرابعة.

(3) كتاب الزيارة :19 ـ المسألة الثانية.
(
4) يعني مسائل أحمد بن حنبل.
(
5) رأس الحسين| ابن تيمية :206 مطبوع مع استشهاد الحسين للطبري.

(6) شفاء السقام :146.
(
7) سير أعلام النبلاء 16:529 ـ 533، تاريخ بغداد 10:371 ـ 375.

(8) سير أعلام النبلاء 4 : 484 ترجمة الحسن بن الحسن السبط عليه السلام .
(
9) سنن أبي داود 1 : 453|2042.

(10) تهذيب التهذيب 6 : 46 ـ 48|99.

(11) راجع شفاء السقام :80.
(
12) هامش المحقق في| شفاء السقام :187 ـ الطبعة المحققة.

(13) سير أعلام النبلاء 4 : 484 ـ 485 ترجمة الحسن المثنى.

الشبهة الثالثة: إنّ الزيارة تفضي إلى الشرك?

قد يجاوز بعض الجهلاء الحد حين يغلبه الوجد، ولا فقه له ولا علم، فيسجد للقبر، وهذا أمر منكر لا يقرّه أحد بأي عذر، والواجب تعليم الجاهل وزجره عن هذا ونظائره من الاَفعال التي لا تستقيم مع الشرع، ولا مع أدب الزيارة، ولهذا ونظائره أوجب الله تعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجب على العالم أن يظهر علمه، وإلاّ لعنه الله وأبعده عن ساحة رضاه.
أما ابن تيمية فقد جعل هذا ذريعة إلى تحريم الذهاب إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصد الزيارة حتى من قرب، قائلاً: إن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: (
وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرُنّ وُدّاً ولا سُواعاً ولا يغَوث ويعوقَ ونسرا ) قالوا: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ثمَّ صوّروا على صورهم تماثيل، ثمَّ طال عليهم الاَمد فعبدوها... قال: وقد ثبت عنه في الصحيح أنّه قال: «إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك». واحتجّ أيضاً بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وعلى هذا قال: كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء، دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر
(1).
وهذا ممّا لا يحتجُّ به ذو معرفة، فهل كان على الله تعالى أن لا يبعث نبياً، سدّاً للذرائع، إذا كانت أمة سالفة قد عبدت نبيّها وألَّهته؟! أم عليه تعالى إذا بعث نبيّاً ألاّ يُميته؟! وإذا أماته أن يرفعه إلى السماء لئلاّ يُدفن بين أمّته فيتخذون قبره مسجداً؟!
لقد بيّنت الشريعة التوحيد وحدوده، والشرك وحدوده، وحتى الشرك الاَصغر، ليجتنبه الناس ولا يخلطون بعباداتهم، وطاعاتهم وأعمالهم ومعتقداتهم شيئاً ممّا يدخل تحت عنوان الشرك، ليبقى الواجب واجباً، والمندوب مندوباً، والمباح مباحاً، كلٌّ على صورته المشروعة، وما يظهر من بدع في طريق الناس وأساليبهم يردّ عليهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : «مَن أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ».
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بزيارة قبور إخوانهم، فهل يعني أنه أباح لهم إقامة الاَوثان عليها والسجود لها؟

لقد أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها بعد أن علَّمهم آدابها وسننها، ونهاهم عن المحرم فيها، وهذا هو الاَصل في الزيارة في غيرها.
ولقد كان النصارى حتى قبل ظهور نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يشركون بالله في صلواتهم فيجعلونه ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهل من واجب الموحِّد فيهم أن ينهاهم عن الصلاة لما خالطها من شرك!! أم الواجب عليه تبيين حدودها وآدابها ونفي كل ما خالطها من بدع وضلالات؟ أم كان على خاتم الاَنبياء أن يحرِّم الصلاة سدّاً للذرائع؟!
هذا مما لا يقوله عاقل.. غير أن عادة ابن تيمية التهويل في الاَمور، وإغراء الناس بالاِيهام والمغالطة والتلبيس، وقد يسوق هذا إلى الكذب والافتراء، وكثيراً ما وقع فيهما!! وها هو الآن يرتكبهما في قوله: (كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر). وافترى على مالك بن أنس وكذّب فيه المالكية كلّهم، ومذهبم قائم على هذا، وقد نقلوه عن إمامهم مالك بأسانيدهم العالية عن أوثق أصحابه وأكثرهم معرفة به.. وحتى لو صح مدّعاه، ولا يصح، فإنّما هو عليه، لا له، ففيه شهادة بزيارتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدعاء عنده، ولا يضرّ في ذلك استقبال القبر عند الدعاء او استدباره واستقبال القبلة. وقد قدمنا على الهيئتين كثيراً من أثر السلف.
ويغض ابن تيمية الطرف عن كل ما لا يوافق هواه من أثر السلف.. وحين يختلف من السلف اثنان يتمسك هو بمذهب المروانية منهم ويهجر من خالفه، ولو كان من أشرف الصحابة، وأكثرهم علماً..
فلقد وقع النزاع في شيء من هذا عند القبر الشريف بين مروان بن الحكم وبين
أبي أيوب الاَنصاري: أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته، ثمَّ قال: هل تدري ما تصنع؟
فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب الاَنصاري رضي الله عنه ، فقال: نعم، إنّي لم آتِ الحَجَر، إنّما جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثمَّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله»! أخرجه أحمد في مسنده، وصحَّحه الحاكم والذهبي(2).
نعم، صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله..  ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله..
ومن غريب اختلاقات ابن تيمية هنا قوله: فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء، لئلاّ يصلّي أحد عند قبره ويتخذه مسجداً، فيُتَّخذ قبره وثناً!
وهذا تهويل وافتراء، فما كان شيء من هذا يدور في خلد أحدهم وإنَّما دفنوه هناك لقولهم إن الاَنبياء يُدفنون حيث قبضوا، بل رفعوا القول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه؛ قال المؤرخون: لمّا توفِّي النبيُّ اختلفوا في موضع دفنه؛ فقال قائل: في البقيع، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الاستغفار لهم.. وقال قائل: عند منبره.. وقال قائل: في مصلاّه.. فجاء أبو بكر فقال: إنّ عندي من هذا خبراً وعلماً، سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم

يقول: «ما قُبض نبيٌّ إلاّ دُفِن حيث تُوفِّي»(3).
هذه رواية ابن إسحاق والواقدي، أمّا في رواية أبان بن عثمان الاَحمر فإنّ قائل ذلك هو عليٌّ عليه السلام ؛ قال أبان: وخاض المسلمون في موضع دفنه، فقال عليٌّ عليه السلام : «إنّ الله سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان إلاّ وارتضاه لرمسه فيه، وإنّي دافنه في حجرته التي قُبض فيها» فرضي المسلمون بذلك
(4).
وأياً كان القائل، فإنّ ما ذكره ابن تيمية لم يكن ليخطر ببال أحدهم على الاطلاق، ناهيك عمّا تنطوي عليه كلمته من تصوّر الاِجماع أو ما هو قريب به!!
تلك هي شبهاتهم، لا تقوم إلاّ على الذوق الخاص الذي لا يستقيم مع منطقٍ متجرِّدٍ، ولا يسنده دليل..

_________________

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 27 : 184 ـ 192، ونحوه في| زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور :29 ـ 30.

(2) مسند أحمد 5 : 423، والمستدرك 4 : 560|8571.

(3) انظر: السيرة النبوية| ابن هشام 4 : 256، السيرة النبوية| الذهبي 2 : 481، والنص منه.
(
4) إعلام الورى| الطبرسي 1 : 27.

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى