شبهات و رودود
 

الصفحة الرئيسية

ما هو الجديد

اتصل بنا

 

الصفحة رقم

 

أقسام التوسُّل

 هل التوسُّل شرك؟
مشروعية الزيارة والتوسل والشفاعة

التوسُّل بالاَنبياء والصالحين

 هل التوسُّل شرك؟

التوسُّل لغةً واصطلاحاً

توسَّل إلى الله بوسيلةٍ: إذا تقرّب إليه بعمل. ووَسَّل فلانٌ إلى الله وسيلةً: إذا عمل عملاً تقرّب به إليه.وتوسّل إليه بكذا: تقرّب إليه بحرمةِ آصرةٍ تُعطفه عليه.
والوسيلة: القُربة.. والدرجة.. والمنزلة عند الملك.
وفي حديث الآذان: «اللهم آتِ محمداً الوسيلة» هي في الاَصل ما يُتَوصَّلُ به إلى الشيء ويُتَقَرّب به، والمراد به في الحديث: القرب من الله تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة. وقيل: هي منزلة من منازل الجنّة. هكذا قال ابن منظور
(1).
وقال الراغب: الوسيلة: التوصّل إلى الشيء برغبة، وهي أخصّ من الوصيلة بتضمّنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: (
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة ).
وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى ـ كما قال الراغب ـ مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرّي مكارم الشريعة، وهي كالقربة
(2).
وقد ورد لفظ «الوسيلة» في القرآن الكريم في موضعين:
الاَول: في قوله تعالى: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون )(3).

قال أهل التفسير: أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات، فكأنّه قال: تقرّبوا إليه بما يرضيه من الطاعات(4). قال الرازي: الوسيلة، فعيلة، من وَسَل إليه إذا تقّرب إليه. قال لبيد الشاعر: أرى الناسَ لا يدرون ما قدَّ أمرهم * ألا كل ذي لبٍّ إلى الله واسِلُ

أي متوسل. فالوسيلة هي التي يُتَوسَّل بها إلى المقصود(5).
واستنتج السيد الطباطبائي ممّا تقدَّم في معنى الوسيلة أنّها ليست إلاّ توصلاً واتصالاً معنوياً بما يوصل بين العبد وربّه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد بربّه إلاّ ذلّة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلى جنابه تعالى، فهذه هي الوسيلة الرابطة، وأمّا العلم والعمل فإنّما هما من لوزامها وأدواتها كما هو ظاهر، إلاّ أن يطلق العلم والعمل على نفس هذه الحالة.
وفي الترابط بين المفردات الثلاثة: « تقوى الله» و«ابتغاء الوسيلة» و«الجهاد في سبيله» الواردة في الآية عرض السيد الطباطبائي صورةً رائعة متماسكة، خلاصتها أنّ الاَمر بابتغاء الوسيلة بعد الاَمر بالتقوى، ثمَّ الاَمر بالجهاد في سبيل الله بعد الاَمر بابتغاء الوسيلة، هو من قبيل ذكرالخاص بعد العام اهتماماً بشأنه
(6).
فابتغاء الوسيلة إذن وهو التماس ما يقرّب العبد إلى ربّه، أخص من التقوى العامة في اجتناب المعاصي والعمل بالطاعات.

والموضع الثاني: في قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً )(7).
والآية هنا في معرض الردِّ على أقوام يعبدون الملائكة، أو يؤلهون المسيح وعزيراً عليهما السلام ، فقالت الآية انّ أولئك الذين تدعونهم من ملائكة وأنبياء إنّما هم في أنفسهم يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون عذابه
(8).
والوسيلة هنا لم تخرج عن معناها الاَول، فهي التوصل والتقرّب. وربّما استعملت بمعنى ما به التوصّل والتقرّب، ولعلّه الاَنسب بالسياق
(9).
ومن كل ما تقدّم يُعلَم أنّ التوسُّل إنّما هو اتخاذ الوسيلةالمقصود، ومعه يكون الاَنسب في معنى الوسيلة أنّها ما يتم به التوصّل والتقرّب.
هذا هو التوسُّل في معناه اللغوي الجامع.
أمّا التوسُّل إلى الله تعالى في معناه الاصطلاحي، فهو أن يتقرّب العبد إلى الله تعالى بشيء يكون وسيلة لاستجابة الدعاء ونيل المطلوب
(10). وهو ما جاء به قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) فهم بعد استغفارهم يتّخذون من استغفار الرسول لهم وسيلة لنيل توبة الله عليهم ورحمته إيّاهم. وهذا توسُّل بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.

ولم ينحصر أُسلوب التوسُّل المأمور به شرعاً، أو الآخر الذي أباحته الشريعة، بهذا اللون بل تعدَّدت أساليبه بتعدُّد الوسائل المعتمدة فيه، كما سيأتي في مبحث أقسام التوسُّل.
ومن هنا يمكن ملاحظة أكثر من مصطلح آخر قد يكون مرادفاً للتوسُّل بهذا المعنى، منها:1 ـ الاستشفاع: أو التشفّع، وهو اتخاذ الشفيع إلى الله تعالى لاستجابة الدعاء ونيل القرب والرضا.
وقد كان الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبدعائه في حياته ثابت في سلوك المسلمين وثقافتهم، كما هو ثابت أيضاً بعد وفاته، والاِجماع قائم على تحقّق شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم لاَمّته يوم القيامة.
والشفيع بمثابة الوسيلة في الدعاء وطلب القربى.

2 ـ الاستغاثة: وهي طلب الاِغاثة من المستغاث به، إلى المستغاث والمغيث وهو الله تعالى.
3 ـ التوجّه: وهو التوجّه إلى الله تعالى بما له وجه عنده.
4 ـ التجوّه: وهو مثل التوجّه، فهو سؤال الله تعالى بما له وجاهةٌ عنده.
فالوسيلة في التوسُّل، هو الشفيع في الاستشفاع، وهو المستغاث به في الاستغاثة، وهو المتوجَّهُ به في التوجّه، والمتجوّه به في التجوّه. ولا عبرة في اختلاف الاَلفاظ أو الاختلاف فيها، ما دام المعنى واحداً، وهو سؤال الله تعالى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بغيره ممّا له عند الله تعالى منزلة مقطوع بها.

_________________

(1) لسان العرب (وسل).
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن (وسل) :560 ـ 561.
(3) سورة المائدة: 5|35.

(4) مجمع البيان 3 : 293.
(
5) تفسير الرازي 6 : 225 ـ 226.
(
6) الميزان 5 : 328.

(7) سورة الاِسراء: 17|57.
(
8) انظر تفسير الرازي 10 : 233 ـ 234، والميزان 13 : 128.
(
9) الميزان 13 : 130.
(
10) انظر: التوسل| جعفر السبحاني :18، معاونية التعليم والبحوث الاِسلامية، بدون تاريخ ورقم طبعة.

أقسام التوسُّل

التوسُّل في معناه واحد، لا يمكن تقسيمه من هذا الوجه، غير أنّه من حيث تعيين المتوسَّل به ـ أي الوسيلة ـ يتعدّد بتعدّد الوسائل، فليس كل شيء يصلُح أن يكون وسيلةً إلى الله تعالى، وإنّما هناك وسائل أمر الشارع ببعضها وشرّع البعض الآخر على نحو الاِباحة أو الاستحباب.
وأقسام التوسُّل بهذا الاعتبار هي:

1) التوسُّل بالله تعالى:

الله تبارك وتعالى أقرب إلى المرء من نفسه، وأعلم به من نفسه، وأرحم به من كل شيء، فهو ( الرّحْمنُ الرَّحِيْم ) وهو

( أرْحَمُ الرَّاحِمِيْن ) فجاز التوسُّل به تعالى إليه لنيل رضاه، وهو في نهاية اليقين به تعالى والوثوق به والاعتماد عليه. وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند النوم: «اللّهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك»(1).
وفي هذا الباب يدخل كل دعاء يكون الله جلَّ جلاله هو المخاطب فيه، فقولك: «اللهم اغفر لي ذنبي»، «اللهم ارحمني»، «اللهم انّي أسألك رضاك» وغير ذلك إنّما هو توسُّل بالله تعالى لنيل المغفرة، والرحمة، والرضوان.
ومن مفاتح هذا الباب: قوله تعالى: (
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم )(2). وقوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان )(3).
ـ وممّا يظهر فيه معنى التوسُّل من هذا القسم، الدعاء المأثور: «اللهم إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوّل عافيتك، ومن فجأة عقوبتك، ومن جميع سخطك»
(4).
ـ وكم هي جلية عظمة هذا القسم من التوسُّل، لما يتميّز به من درجات اليقين بالله والاِحساس الاَكبر بالقرب منه، كما نلمسه في دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام : «لا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير يؤمِنني عليك، ولا حصنٌ يحجبني عنك، ولا ملاذ ألجأ إليه منك.. ولا أستشهد على صيامي نهاراً، ولا أستجير بتهجّدي ليلاً... ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من
وظائف فروضك... هذا مقام من استحيا لنفسه منك
»(5).
فهو عليه السلام يستبعد الشفعاء بينه وبين بارئه الذي إليه مآبه، وينحّي كل وسيلة، رغم إمكان الاستشفاع والتوسل، كما هو واضح في قوله: «ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من وظائف فروضك» فهو لفرط استحيائه من خالقه يستحي أن يقدّم طاعاته وسيلة بين يدي دعائه خشية أن يكون قد فرّط في أداء شيء من وظائف الفروض.
إنّه يجعل الله تعالى هو شفيعه وهو وسيلته إلى القرب منه ونيل رضاه.
ـ ومن دعائه عليه السلام : «وأشبه الاَشياء بمشيّتك، وأولى الاَمور بك في عظمتك، رحمة من استرحمك، وغوث من استغاث بك»
(6).
ـ وله عليه السلام أيضاً: «وياغوثَ كل مخذول فريد، ويا عضد كل محتاج طريد»
(7).
ـ وقوله عليه السلام أيضاً: «وبك استغاثتي إن كَرِثْتُ»
(8).
ـ وقوله عليه السلام : «واستجير بك اليوم من سخطك، فصلِّ على محمّدٍ وآله وأجرني»
(9).
ـ وقوله الذي يحقّق هذه المعاني كلها: «فناديتك يا إلهي مستغيثاً بك، واثقاً بسرعة إجابتك، عالماً أنّه لا يُضطَهَدُ من آوى إلى ظلِّ كنفِك، ولا يفزع من لجأ إلى معقِل انتصارك»
(10).

2) التوسُّل بأسماء الله الحسنى وصفاته جلّ جلاله

قال تعالى: ( وَللهِِ الاََْسْماءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )(11).
وهو أمر صريح بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى، وغالباً ما يأتي الدعاء بالاَسماء الحسنى على صيغة التوسُّل والاستغاثة، وهو إذ يؤكّد أنّ الدعاء هو توسُّل واستغاثة بالله تعالى إليه ولنيل المطلوب لديه، يضيف أُسلوباً جديداً من أساليب التوسُّل والاستغاثة.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لله تسعة وتسعون اسماً، من دعا الله بها استجيب له»
(12).
ـ وقد جاء في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم : «يا حيُّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث».
ـ وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم يعلّم ابنته فاطمة عليها السلام أن تقول: «يا حي يا قيّوم، يا بديع السماوات والاَرض، لا إله إلاّ أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحدٍ من خلقك»
(13).
ـ ومن حديثه صلى الله عليه وآله وسلم : «ما أصاب عبداً قطّ همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضائك.. أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همّي وغمّي؛ إلاّ أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحاً».
قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلّمها؟ يريدون هذه الكلمات.
قال: « ينبغي لمن سمعها أن يتعلّمها»
(14).
ـ وأخرج الترمذي من حديث بريدة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يقول: (اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت الاَحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لقد سألت الله باسمه الاَعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى»
(15).
ـ وأخرج الترمذي أيضاً من حديث أنس بن مالك أنّه كان جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجل يصلّي، فدعا الرجل: (اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والاَرض، يا ذا الجلال والاِكرام، يا حيّ يا قيّوم) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «تدرون بمَ دعا الله؟ دعا الله باسمه الاَعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»
(16).
ـ ومن حديث محجم بن الادرع، أخرجه الحاكم: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد، فإذا هو برجل قد صلّى صلاته وهو يتشهَّد ويقول: اللَّهم إنِّي أسألك بالله الاَحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنَّك أنت الغفور الرحيم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «
قد غُفر له، قد غُفر، قد غُفر له» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي
(17) . والحديث في مثل هذا وأشباهه كثير جداً.
وفي الدعاء النبوي الشريف: «اللَّهم إنِّي أسألك باسمك الاَعظم»
(18)، «اللَّهم إنِّي أسألك باسمك المخزون المكنون»(19)، «اللَّهم إنِّي أسألك بأسمائك الحسنى»(20).
ـ وفي دعاء الاِمام السجّاد عليه السلام : «فأسألك اللَّهم بالمخزون من أسمائك»
(21).
ـ وفي دعاء الاِمام الباقر عليه السلام : «اللهم إنّي أسألك باسمك العظيم الاَعظم، الاَعزّ الاَجل الاَكرم، الذي إذا دُعيت به على مغاليق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت، وإذا دُعيت به على مضايق أبواب الاَرض للفرج انفرجت...» الدعاء
(22).
والتوسُّل بأسماء الله الحسنى كثير جدّاً في الدعاء المأثور، وعليه إجماع المسلمين، لا يخالف فيه أحد.
ـ ومن صريح التوسُّل بصفاته: دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام : «اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون»
(23).
ـ ودعاؤه أيضاً: «اللهم صلِّ على محمّدٍ وآله، وشفّع في خطاياي كرمك.. اللهم ولا شفيع لي إليك فليشفع لي فضلك»
(24).

ـ وفي الدعاء النبوي الشريف: «اللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك»(25). «اللهم إنّي أعوذ بنور وجهك الكريم وكلماتك التامّة»(26).

3) التوسُّل بالثناء على الله والصلاة على النبيِّ وآله:

وهو أن يستفتح الداعي دعاءه بحمد الله تعالى بما هو أهل له من الحمد، والثناء عليه، وأن يصلّي على النبي محمّدٍ وآله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّ ذلك أقرب في استجابة الدعاء ونيل المطلوب.
قال الاِمام الصادق عليه السلام : «إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربِّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّ والمدح له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمَّ يسأل الله حاجته»
(27).
وقال: «إنّ العبد لتكون له الحاجة إلى الله تعالى فيبدأ بالثناء على الله والصلاة على محمّد وآله حتى ينسى حاجته، فيقضيها من غير أن يسأله إيّاها»
(28).
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «لا يزال الدعاء محجوباً حتى يُصلّى عليَّ وعلى أهل بيتي»
(29).
وفي حديث الاِمام علي عليه السلام : «كلُّ دعاءٍ محجوب حتى يُصلّى على محمد وآل
محمّد
»(30).
من هنا تجد الحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي وآله تتصدّر الكثير من الاَدعية المأثورة، ولعلّ أوضح ما تكتشف فيه هذه الظاهرة هي أدعية الاِمام السجّاد عليه السلام في الصحيفة السجّادية التي تكاد كلّها تستهل بالحمد والصلاة، بل إنّ الصلاة على النبي وآله تتصدّر الغالبية العظمى في فقراتها.
ومن صريح دعائه متوسّلا بالصلاة، قوله عليه السلام : «وصلِّ على محمّدٍ وآله صلاةً دائمةً ناميةً، لا انقطاع لاَبدها، ولا منتهى لاَمدها، واجعل ذلك عوناً لي، وسبباً لنجاح طلبتي، إنّك واسع كريم»
(31).

4) التوسُّل بالقرآن الكريم

كما ورد سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، ورد أيضاً سؤاله جلّ شأنه بالقرآن الكريم، وهو كتابه المنزل وكلامه المحكم.
عن عمران بن الحصين: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اقرأوا القرآن، واسألوا الله تبارك وتعالى به، قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس»
(32).
فكما يفيده عموم اللفظ من إرادة القربة ونيل الثواب والمنزلة بقراءة القرآن، فإنّه يفيد أيضاً جواز سؤال الله تعالى به، وتقديمه بين يدي الدعاء.
وفي حديث الاِمام علي عليه السلام ما يبيِّن ذلك، قال عليه السلام : «واعلموا أنّ هذا القرآن هو
الناصح الذي لا يغشّ... فاسألوا الله به، وتوجّهوا إليه بحبِّه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجّه العباد إلى الله تعالى بمثله»(33).
وفي دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام : «واجعل القرآن وسيلةً لنا أشرف منازل الكرامة...
«اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ واحطط بالقرآن عنّا ثقل الاَوزار... «وهوّن بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق وجهد الاَنين..»
(34).
وفي حديث أهل البيت عليهم السلام : «اللهم إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الاَكبر وأسماؤك الحسنى، وما يخاف ويرجى، أن تجعلني من عتقائك من النار»
(35).
وممّا لا نزاع فيه أنّ القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «تعلّموا القرآن فإنّه شافع يوم القيامة»
(36).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»
(37).
وفي حديث الاِمام علي عليه السلام في القرآن، وقد تقدّم طرف منه، يقول: «واعلموا أنّه شافعٌ مشفَّع، وقائلٌ مصدَّق، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه»
(38).

5) التوسُّل بالاَيّام المباركة

الاَيام التي جعل الله تعالى لها شأناً خاصّاً هي الاَُخرى باب من أبواب التوسُّل والاستشفاع.
فقد جاء في دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام في شهر رمضان المبارك: «اللهم إنّي أسألك بحقِّ هذا الشهر»
(39).

6) التوسُّل بالاَعمال الصالحة

إذا كان المراد بقوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة ) هو إتيان الطاعات المقرِّبة إلى الله تعالى، كما تقدّم عن المفسّرين، فالطاعات إذن هي الوسيلة إليه تعالى هنا، وبها يتوسَّل العبد لنيل القربة والمنزلة عند بارئه.
ولم يقتصر التوسُّل بالاَعمال الصالحة على أدائها فقط، بل تضمّن أيضاً التوسُّل بها إلى الله تعالى بالدعاء رجاءً لنيل المطلوب، من كشف الغم والهم، أو رفع الدرجة، ونيل الرضوان.
وهذا المعنى منطوٍ في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بعد أن بنيا البيت العتيق، إذ قدَّما عملهما المبارك بين يدي الدعاءِ، قال تعالى: (
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم )
(40).

وروى البخاري وغيره حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصُّ على أصحابه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فتوسّلوا بأعمالهم الصالحات ففرج عنهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم : «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم المطر، فآووا إلى غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلاّ الصدق، فليدعُ كلّ رجلٍ منكم بما يعلم أنّه صدق فيه.
فقال واحد منهم: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمل لي على فِرْقٍ
(41) من أرز، فذهب وتركه، وإنّي عمدتُ إلى ذلك الفِرْق فزرعته، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فَسُقها، فقال لي: إنّما لي عندك فِرْق من أرُز! فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنّها من ذلك الفِرْق.. فساقها.. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا... فانساحت عنهم الصخرة.
فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كلَّ ليلةٍ بلبن غنم لي، فأبطأتُ عنهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون
(42) من الجوع فكنت لا أسقيهم أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا.. فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبِّ الناس إليَّ، وأنّي راودتها عن نفسها، فأبت، إلاّ أن آتيها بمئة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعت بين رجليها قالت: اتقِ الله، ولا تفضّ الخاتم إلاّ بحقِّه! فقمت وتركت المئة دينار.. فإن كنت تعلم انّيفعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا... ففرّج الله عنهم فخرجوا»(43).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد بهذا الحديث أن يمتّع أصحابه بقصةٍ من قصص الغابرين، إنّما كان يريد ما فيها من دروس وعبر، فهي بعد ما تتركه من أثر وثيق في شحذ الاَرواح وزيادة اليقين، تؤدّي دور التعليم لواحد من سبل الخلاص من الشدائد، ألا وهو التوسُّل بالاَعمال الصالحات.
وفي بعض التفاسير أنّ المراد بأصحاب الرقيم في قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا ً)(44) هم هؤلاء النفر الثلاثة.
قال الطبرسي، في ذكر الوجوه الواردة في معنى الرقيم: وقيل أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسدّ عليهم، فقالوا: ليدعُ الله تعالى كل واحد منّا بعمله حتى يفرّج الله عنّا، ففعلوا، فنجّاهم الله. قال: رواء النعمان بن بشير، مرفوعاً
(45).
ـ وفي هذا الباب أيضاً التوسُّل بالكشف عن الاعتقاد المرضي عند الله جلّ شأنه، كالذي يستفاد من قوله تعالى: (
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّار )
(46). فقدّموا الاِيمان وسيلةً بين يدي دعائهم. وفي ذلك من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام شيء كثير:
ـ ففي دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الاَحد..»
(47). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللهم أنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك الله لا إله إلاّ أنت»(48).
ـ وفي دعاء الاِمام زين العابدين صلى الله عليه وآله وسلم : «ووسيلتي إليك التوحيد، وذريعتي أنّي لم أشرك بك شيئاً ولم أتخذ معك إلهاً»
(49).

7) التوسُّل بدعاء الغير

للمؤمن عند الله تعالى كرامة.. من هنا جعل الله للمؤمن شفاعةً في إخوانه وذويه من المؤمنين يوم القيامة، بل في الدنيا أيضاً، ففي الحديث الشريف: «قد أَجَرْنا مَنْ أجَرْتِ أُمَّ هانئ»(50) لمّا استجار بها قوم من المشركين يوم الفتح، والجوار معروف في الاِسلام ومحفوظ. ودعاء المؤمن لاَخيه المؤمن في الغيب من الدعوات المجابة، ومن الدعوات التي يستحب للمؤمن فعلها. ففي الحديث الشريف: «إنّ دعوة المسلم مستجابة لاَخيه بظهر الغيب»(51).
بل قد جاء في الحديث الشريف الحثُّ على التوسُّل بدعاء بعض المؤمنين بأعيانهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ رجلاً من أهل اليمن يقدم عليكم.. يقال له أُوَيس، فمن لقيه منكم فليأمره فليستغفر لكم»
(52).
وقصة عمر بن الخطاب في طلب أُوَيس القرني والتماس دعوته مشهورة
(53).
في ترجمة أُوَيس، قال الذهبي بعد أن ذكر عدّة أحاديث في التماس عمر دعاءه، قال: نادى عمر بمنىً على المنبر: يا أهل قَرَن.. فقام مشايخ، فقال لهم عمر: أفيكم من اسمه أُوَيس؟
فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ذاك مجنون يسكن القفار، لا يألَف، ولا يؤلَف. قال: ذاك الذي أعنيه، فإذا عدتم فاطلبوه، وبلّغوه سلامي وسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال: فقال أُوَيس ـ لمّا بلغه ذلك ـ : عَرَّفني، وشهَّر باسمي؟! اللّهم صلِّ على محمّدٍ وعلى آله، السلام على رسول الله، ثم هام على وجهه، فلم يُوقَف له بعد ذلك على أثر دهراً، ثمَّ عاد في أيّام علي عليه السلام ، فاستشهد معه بصفّين، فنظروا فإذا عليه نيّف وأربعون جراحة
(54).
وكل هذا صريح في التوسُّل بدعاء المؤمن، فهو مرتبة من مراتب التوسُّل.
وأشرف المؤمنين على الاِطلاق هو سيد البشر أجمعين محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أمر الله تعالى بالتماس دعوته وإتيانه لطلب دعائه
واستغفاره. قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً )(55).

 وقال تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رُسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُون )(56).
والتوسُّل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهور بين الصحابة.
قال ابن تيمية: وذلك التوسُّل به أنّهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسّلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك: أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت الاَموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله لنا أن يُمسكها عنّا.
فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه، ثمَّ قال: «اللّهم حوالينا ولا علينا، اللّهم على الآكام والضراب وبطون الاَودية ومنابت الشجر»، قال، وأقلعت، فخرجنا نمشي في الشمس
(57).
ذلك كان بعد أن سألوه الاستسقاء، فاستسقى لهم، فسقاهم الله مطراً غزيراً.. روى البخاري ومسلم: أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت الاَموال
وانقطعت السبل، فادعُ لنا الله تعالى يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثمَّ قال: «اللّهم أغثنا، اللّهم أغثنا»، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلمّا توسّطت السماء انتشرت، ثمَّ أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً(58). أي أسبوعاً كاملاً. وفي سنن أبي داود، عن جبير بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الاَنفس وضاعت العيال ونهكت الاَموال وهلكت الاَنعام، فاستسق لنا، فإنّا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك.
قال صلى الله عليه وآله وسلم : «
ويحك، أتدري ما تقول؟! إنّه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك»
(59). فقد أنكر عليه قوله «نستشفع بالله عليك» ولم ينكر عليه قوله «نستشفع بك على الله».
وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن أنس بن مالك: جاء أعرابيرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا من صبي يصطبح، ولا بعير ينطّ، وأنشد:

أتـيتك والعــذراء تدمي لبانـها * وقد شُغـلِت أمُّ الصبيِّ عن الطفلِ
وألقـى بكفّيه الفـتى لاستــكانة * ٍمن الجوع هوناً ما يمرُّ ولا يحـلي
ولا شيء مـمّا يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعَلْهَز الفسلِ
ولـيــس لنـا إلاّ إليـك فرارنا * وأين فرار الناس إلاّ إلى الرســلِ

فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجرُّ رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه، ثمَّ قال: «اللّهم اسقنا..» وذكر الدعاء، ثمَّ قال فما ردَّ النبي يده حتى ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل البطانة يضجّون: الغرق الغرق! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالاَكليل، وضحك النبي حتى بدت نواجذه، ثمَّ قال: «لله درُّ أبي طالب، لو كان حيّاً قرَّت عيناه، مَن يُنشِدنا قوله؟» فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : «يا رسول الله كأنّك تريد قوله:

وأبيضُ يُستسقى الغَمام بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمةٌ للاَراملِ
يطوف به الهُلاّك من آل هاشمٍ * فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ
كذبتم وبيت الله نُبزى محمّداً * ولمّـا نُـطاعِن دونه ونُناضِلِ
ونُسْلِمَهُ حتى نُـصرَّع دونه * ونـذهل عـن أبـنائنا والحلائلِ

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «أجل» فقام رجل من كنانة، رضي الله تعالى عنه، فقال: لك الحمد والحمد ممّن شكر * سقينا بوجه النبيِّ المطرإلى قوله: فكان كما قال عمُّه * أبو طالبٍ أبيض ذو غرر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إن يك شاعرٌ أحسن فقد أحسنت»(60).
وقال ابن تيمية: وفي الصحيح أنّ عبدالله بن عمر قال: إنّي لاَذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمةٌ للاَراملِ
(61) وهذا ممّا لا خلاف فيه.

8) التوسُّل بالاَنبياء والصالحين

وفي هذا القسم من التوسُّل أقسام، هي:
أ ـ التوسُّل بدعائهم في حياتهم؛ وقد تقدّم في الفقرة السابقة.
ب ـ التوسُّل بهم في حياتهم.
ج ـ التوسُّل بهم وبدعائهم بعد موتهم.
والقسمان الاَخيران (ب، ج) ممّا وقع فيه الكلام الذي يستدعي مزيداً من النقد والمطارحة، لذا فقد أفردنا له الفصل الآتي، مستوعبين خلاله الشبهات المثارة حول هذين القسمين من التوسُّل وردودها.

_________________

(1) خرّجه الحافظ العراقي في ذيل (إحياء علوم الدين) عن النسائي في «اليوم والليلة»| 1444 من حديث علي (ع) ـ الغزالي| إحياء علوم الدين 1 : 554.
(2) سورة غافر: 40|60.
(3) سورة البقرة: 2|186.
(4) صحيح مسلم |2739 من حديث ابن عمر. كذا خرّجه العراقي في ذيل (إحياء علوم الدين) 1 : 546.

(5) الصحيفة السجّادية| الدعاء 32.
(
6) الصحيفة السجّادية| الدعاء 10.
(
7) الصحيفة السجّادية| الدعاء 16.
(
8) الصحيفة السجّادية| الدعاء 20.
(
9) الصحيفة السجّادية| الدعاء 48.
(
10) الصحيفة السجّادية| الدعاء 49.  

(11) سورة الاَعراف: 7|180.
(
12) الشيخ الصدوق| التوحيد: 195|9.
(
13) أخرجهما ابن تيمية في كتابه زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور :47 ـ 48.

(14) مسند أحمد 1|391، وابن تيمية| المصدر السابق :48 ـ 49.
(
15) الجامع الصحيح للترمذي 5 : 515|3475.
(
16) المصدر اسابق |3544.

(
17) المستدرك 1 : 400|985.

(18) كنز العمال |3217 و3877.
(
19) الدر المنثور 4 : 9.
(
20) كنز العمال |3782.
(
21) الصحيفة السجّادية| الدعاء 50.
(
22) مصباح المتهجّد| للشيخ الطوسي :374.
(
23) الصحيفة السجّادية| الدعاء 16.
(
24) الصحيفة السجّادية| الدعاء 31.

(25) مسند أحمد 1 : 96، 6 : 201.
(
26) سنن أبي داود |5052.
(
27) الكافي 2 : 351|1.
(
28) بحار الاَنوار 93 : 312.
(
29) كفاية الاَثر :29.

(30) مجمع الزوائد 10 : 160 وقال: رواه الطبراني في (الاَوسط) ورجاله ثقات.
(
31) الصحيفة السجّادية| الدعاء 13.
(
32) مسند أحمد 4 : 445.

(33) نهج البلاغة، الخطبة 176، ص260 ـ تحقيق صبحي الصالح.
(
34) الصحيفة السجّادية| الدعاء 42.
(
35) الاِقبال| لابن طاووس :41.
(
36) مسند أحمد |22219.
(
37) مسند أحمد |6637.
(
38) نهج البلاغة| الخطبة 176.

(39) الصحيفة السجّادية| الدعاء 44، وله تتمة تأتي في محلِّها.
(
40) سورة البقرة: 2|127 ـ 128.

(41) الفِرْق: القسم من الشيء إذا انفصل عنه.
(
42) أي يتصايحون من الجوع.

(43) صحيح البخاري 4 : 173 ـ كتاب الاَنبياء، الباب 53.
(
44) سورة الكهف: 18|9.
(
45) مجمع البيان 6 : 697 ـ 698.
(
46) سورة آل عمران: 3|16.

(47) سنن الترمذي |3475.
(
48) الترغيب والترهيب| للمنذري 2 : 485.
(
49) الصحيفة السجّادية| الدعاء 49.
(
50) أخرجه مالك في (الموطأ) والبخاري ومسلم في الصحيحين، أنظر: سير أعلام النبلاء 2 : 313، 4 : 420.
(
51) مسند أحمد 5:195.

(52) صحيح مسلم |2542.
(
53) انظر: سير أعلام النبلاء 4 : 20 ـ 32.
(
54) سير أعلام النبلاء 4 : 32، تاريخ الاِسلام 2 : 174، 175.

(55) سورة النساء: 4|64.
(
56) سورة المنافقون: 63|5.
(
57) زيارة القبور :41 ـ 42.

(58) صحيح البخاري| كتاب الاِستسقاء، باب 643، صحيح مسلم| كتاب صلاة الاِستسقاء.
(
59) سنن أبي داود 4 : 232 ـ كتاب السنّة.

(60) دلائل النبوة 6 : 140 ـ 142، شفاء السقام :170 ـ 171.
(
61) زيارة القبور :42.

التوسُّل بالاَنبياء والصالحين

تقدّم أنّ هذا القسم من التوسُّل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، كما تقدّم بحث القسم الاَول منه وهو التوسُّل بدعائهم في حياتهم، ويتكفّل هذا الفصل بحث القسمين الآخرين :

القسم الاَول : التوسُّل بالاَنبياء والصالحين في حياتهم

المراد هنا التوسُّل بالاَنبياء والصالحين بأنفسهم وذواتهم، لما لهم عند الله من شأن ومنزلة، وأمثلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته كثيرة.
ـ فقد تقدّم قول الاَعرابي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : (فإنّا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك) وردَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه قوله الاَخير (نستشفع بالله عليك) مقرّاً قوله الاَول (فإنّا نستشفع بك على الله). وهو صريح في جواز الاستشفاع بالنبي نفسه إلى الله تعالى، لمنزلته الشريفة عنده ومقامه المحمود لديه.
ـ كما تقدّم ذكر أبيات أبي طالب في الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وليس بدعائه وحسب، وإقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاَبيات واستبشاره بها.
ـ وفي الصحيح الثابت أيضاً توسُّل الاَعمى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعاء علَّمه إيّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه..
عن عثمان بن حنيف : إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ادعُ الله أن يعافيني. فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرتَ، وهو خير لك».
قال : فادعه.
إلى هنا يظهر من الحديث أنّ الرجل كان يتوسَّل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، غير أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سينقله إلى أُسلوب آخر من أساليب التوسُّل، فبدلاً من أن يدعو له بالشفاء، علَّمه دعاءً يدعو به صاحب الحاجة نفسه..
يقول الحديث : فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «ائتِ الميضأة فتوضَّأ، ثمَّ صلِّ ركعتين، ثمّ قل : اللّهم إنّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمد، إنّي أتوجَّه بك إلى ربِّي فيجلِّي لي عن بصري، اللّهم فشفِّعه فيَّ».
قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرَّقنا، وما طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنَّه لم يكن به ضرٌّ قط
(1).
ابن تيمية روى هذا الخبر عن البيهقي، ثمَّ قال :
(قال البيهقي : ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه، بطوله. ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمِّه عثمان بن
حنيف). ثمَّ واصل ابن تيمية قائلاً : (قلتُ : وقد رواه ابن السُنّي في كتاب عمل اليوم والليلة، من طريقين، وشبيب هذا صدوق روى له البخاري)(2).
وقال أيضاً : (وقد روى الطبراني هذا الحديث في المعجم) ثمَّ ذكر الحديث بطوله بإسناد آخر إلى أن قال : (قال الطبراني : روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر ـ واسمه عُمير بن يزيد ـ وهو ثقة، تفرَّد به عثمان بن عمير عن شعبة، قال أبو عبدالله المقدسي : والحديث صحيح). قال : (قلتُ : والطبراني ذكر تفرُّده بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح يبيِّن أنّه لم ينفرد به عثمان بن عمير)
(3).
لكنّه مع هذا كلّه، ومع وضوح النص النبوي، يقول : فهذا طلبَ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجّهه بنبيِّه إلى الله، وهو كتوسُّل غيره من الصحابة به إلى الله، فإنّ هذا التوجّه والتوسُّل هو توجّه وتوسُّل بدعائه وشفاعته!
(4).
ويستنتج من ذلك وأمثاله ممّا تقدّم ذكره أنّ الصحابة كانوا يطلبون من النبي الدعاء، وهذا مشروع في الحيّ
(5).
وفي هذا مصادرة على الحقيقة غير خافية، ففرق كبير بين أن يطلب أحد الدعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيدعو له، وبين أن يطلب منه الدعاء، فيعلّمه أن يدعوا بنفسه ويتوسَّل في دعائه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيلةً وشفيعاً. ففي الاَوَّل يتولَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم
الدعاء للسائل الذي توسَّل بدعائه له، وهو مرتبة من مراتب التوسُّل، وفي الثاني يتولَّى المرء نفسه الدعاء متوسِّلاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.
والاَمر واضح، لاسيما وفي الحديث عبارة صريحة تقول : «يا محمّد يا رسول الله، إنّي أتوجّه بك إلى ربِّي في حاجتي».
فهو توجّه صريح بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وتوسل به نفسه إلى الله تعالى، ولا يؤثر على هذا المعنى ما جاء بعده من قوله «اللّهم فشفّعه فيَّ» لاَنّ هذه هي غاية التوسُّل والتوجُّه والاستشفاع، سواء كان توسُّلاً بالدعاء، أو كان توسُّلاً بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
كما أنّ قول الاَعرابي المتقدّم الذكر (ادعُ لنا) الذي يفيد التوسُّل بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم لا يلغي دلالة قوله : (فإنّا نستشفع بك على الله) بعد إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول الذي هو صريح بالتوسُّل بذاته الشريفة.
ومثله في صراحة التوسُّل بذاته الشريفة قول أبي طالب الذي استبشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمةٌ للاَراملِ ومثل هذا في الدعاء كثير، نكتفي منه بما أثبته ابن تيمية نفسه من حديث ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه ذكر في دعاء الخارج للصلاة، أن يقول : «اللّهم إنِّي أسألك بحقِّ السائلين عليك، وبحقِّ ممشاي هذا، فإنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت». ثمّ نقل بعض أهل العلم أنّهم قالوا : ففي هذا الحديث أنّه سأل بحقِّ السائلين عليه  وبحقِّ ممشاه إلى الصلاة، والله تعالى قد جعل على نفسه حقّاً، قال الله تعالى : ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين )(6)ونحو قوله : ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً )(7).
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : «يا معاذ أتدري ما حقُّ الله على العباد؟».
قال : الله ورسوله أعلم.
قال صلى الله عليه وآله وسلم : «حقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإنّ حقَّهم عليه أن لا يعذّبهم».
وقد جاء في غير حديث : «كان حقّاً على الله كذا وكذا» كقوله : «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها ـ في الثالثة أو الرابعة ـ كان حقّاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال».
قيل : وما طينة الخبال؟
قال : «عصارة أهل النار»
(8).
وكل هذا دليل على صحة التوسُّل بالصالحين أنفسهم، وليس بدعائهم وحسب.
بل في هذا الحديث دلالة واضحة على جواز التوسُّل بهم بعد موتهم، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «بحقِّ السائلين» لفظ عام يستوعب كل السائلين من لدن آدم عليه السلام إلى يوم السائل هذا، بل يستوعب الملائكة ومؤمني الجن أيضاً، ولا يمكن حصره
بالسائلين هذا اليوم أو من الاَحياء، إذ لا دليل على هذا يحمله الحديث، ولا مخصص له من خارجه أيضاً، وسيأتي الكلام في هذا في الفقرة اللاحقة.
كما أنّ في الحديث شاهد آخر على التوسُّل بالاَعمال الصالحة : «بحقِّ ممشاي هذا...
».

القسم الثاني : التوسُّل بالاَنبياء والصالحين بعد موتهم

وهذا هو أكثر ما وقع فيه الخلاف، لاسيما من قبل ابن تيمية ومقلِّديه من سلفية ووهابية، والتحقيق يثبت أنّهم ليسوا على شيء في ما ذهبوا إليه، وليس لهم إلاّ الرأي الذي لا يشفع له دليل، بل الدليل الذي لا يستطيعون إنكاره قائم على خلاف ما يقولون، وسنرى هنا كيف يجادل ابن تيمية في أدلة هذا القسم بعد أن يثبت صحة كل واحد منها، دون أن يستند على شيء البتة..
وبعد أن قدّمنا الكلام في دلالة الحديث السابق «
بحقِّ السائلين عليك» على التوسُّل بالموتى، إذ ليس في الحديث ولا خارجه ما يفيد حصره بالاَحياء، نشرع باختصار كلام ابن تيمية في هذا الموضوع، والردِّ عليه، مقدِّمين في الردِّ ما أثبت صحته بنفسه.
يقسِّم ابن تيمية التوسُّل بالاَنبياء والصالحين إلى ثلاث درجات، ويقطع بحرمتها جميعاً، وهي :
الدرجة الاَولى :
أن يسأل الميتَ حاجتَه، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دَينه، أو ينتقم له من عدوِّه، ونحو ذلك، ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله عزَّ وجلَّ.
يقول : وهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلاّ قُتل(9).
ومعنى هذا أنّ السائل يسأل الميت، نبياً كان أو من الاَولياء الصالحين، حاجته، معتقداً أن هذا المسؤول هو الذي بيده الاَمر، وهو الذي سيستجيب دعاءه ويعطيه مراده.
ومثل هذا الاعتقاد لا ينسب إلى المؤمنين، ولا يراود مؤمناً عاقلاً، لكن قد يزاوله بعض الجهّال من عوام الناس، لسذاجةٍ فيهم، دون معرفة بحقيقة هذا الاَمر ومآله، والواجب أن يُعلَّم هؤلاء ويُرشَدوا بالاَساليب المناسبة لقدراتهم العقلية ولاستعداداتهم النفسية، دون الوصول بهم إلى التكفير.
أمّا إذا كان يفعله الغلاة، من أيِّ فريقٍ كانوا، فالغلاة قد أخرجهم غلوُّهم من الاِيمان قبل أن يخرجهم توسُّلهم هذا، فأولى أن يستتابوا على اعتقاداتهم الفاسدة أولاً، فهي الاَصل في هذا وغيره.
الدرجة الثانية :
وهي أن لا تطلب منه الفعل، ولا تدعوه.. ولكن تطلب أن يدعو لك، كما تقول للحي : ادعُ لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء، فهذا مشروع في الحي، وأمّا الميت من الاَنبياء والصالحين فلم يشرّع لنا أن نقول : ادعُ لنا. ولا اسئل لنا ربَّك.. فلم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الاَئمة، ولا ورد فيه حديث.
ثمَّ استدلَّ على كلامه بأنَّ المسلمين حين أجدبوا زمن عمر بن الخطاب،
استسقى عمر بالعباس، وقال : (اللّهم إنّا كنّا إذا أجدبنا نتوسَّل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيّنا فاسقنا) ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين : يا رسول الله ادع لنا واستسق لنا
(10). ثمَّ أطال الكلام بما ليس له في الموضوع صلة، إذ طفق يتكلَّم طويلاً عن بناء القبور واتخاذها مساجد والتبرُّك بها(11).
والتحقيق يثبت خلاف هذا الرأي ويكشف عن ثغرات هذا الاستدلال..
بدءاً : إنّ الاستدلال باستسقاء عمر بالعباس لا ينهض دليلاً على الرأي المذكور، لعدة وجوه :
الاَول : إذا كان هذا يمثِّل قناعة عمر بالتوسُّل بالحيّ، فليس فيه دلالة على حرمة التوسُّل بالميِّت.
الثاني : إذا كان موقف عمر هذا يدلُّ على عدم صحة التوسُّل بالميت، فليس فيه دلالة على أنّ هذه هي قناعة كلِّ الصحابة حتى المشاركين له في هذا الاستسقاء. فإذا حُمِل إقرارهم قول عمر على أنّه إجماع سكوتي يدلُّ على صحّة رأيه، فهو من ناحيةٍ : إنّما يدلُّ على إقرارهم التوسُّل بالحي الذي تمَّ بالفعل، ولا يدلُّ على نفي التوسُّل بالميِّت..
هذا إذا عُدَّ الاِجماع السكوتي حجّة، والاختلاف فيه كبير جدّاً.. فقد أنكر الاجماع السكوتي طائفة كبيرة من الفقهاء، فلم يعدُّوه إجماعاً ولا حجّة، وهذا هو مذهب المالكية، وهو قول الشافعي، وداود الظاهري إمام  
الظاهرية، وإليه ذهب الآمدي، والفخر الرازي، والبيضاوي(12).
وقد انتقده ابن حزم نقداً لاذعاً، فقال : إنّ القول بمثل هذا الاجماع يعني إيجاب مخالفة أوامره صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يجمع الناس عليها!! وهذا عين الباطل.. بل إذا تنازع الناس ردّدنا ذلك إلى ما افترض الله تعالى علينا الردّ عليه من القرآن والسنة، ولا نراعي ما أجمعوا عليه مع وجود بيان السنّة
(13).
ويجب أن يضاف إلى هذا أنّ هناك حقيقة واقعة جديرة بالاهتمام والملاحظة في أحداث كهذه، ألا وهي هيبة السلطان وصعوبة الردِّ عليه، لاسيما عمر في زمان حكومته، وأمره هذا أشهر من أن يستدعي سوق الاَدلّة والبراهين.
هذا كلُّه فيما لو دلَّت الواقعة على تحقُّق إجماع سكوتي، وغاية ما يدلُّ عليه هذا الاِجماع لو كان متحقِّقاً فعلاً إنّما هو الاجماع على جواز التوسُّل بالحي وبدعائه، وهذا أمر معلوم بغير هذه الواقعة.. ولا تتحمَّل هذه الواقعة أيَّ دلالةٍ زائدةٍ على هذا، لما سيأتي من عمل بعض الصحابة بعد عمر بالتوسُّل بالميِّت.
الثالث : إنّ كلمات عمر في هذه الواقعة تتجاوز مسألة التوسُّل بالدعاء إلى التوسُّل بنفس الشخص وذاته، فهو يقول في أول كلامه : (اللّهم إنّا كنّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا). فهو صريح في التوسُّل بالعبّاس نفسه، وليس بدعائه فقط، كما أراد أصحاب الرأي المتقدِّم، فالحديث صريح في أنّ عمر هو الذي كان يدعو، وليس العبّاس، ولم يرد في أيٍّ من طرق هذا
الخبر أنّ عمر قال للعبّاس (ادعُ لنا)! ويزيد في هذا وضوحاً ما ذكره ابن الاَثير في هذه الحادثة بعد ذكرها، إذ قال : فسقاهم الله تعالى به ـ أي بالعبّاس ـ وأخصبت الاَرض، فقال عمر : هذا والله الوسيلة إلى الله، والمكان منه.
قال : ولمّا سقي طفق الناس يتمسَّحون بالعبّاس، ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين
(14).
إذن هو توسُّلٌ بالعبّاس نفسه لقرابته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس توسُّلٌ بدعائه، هذا من ناحية..
ومن ناحيةٍ أُخرى فهو عريٌّ عن الدلالة على عدم صحة التوسُّل بالميِّت أو بدعائه، وذلك :
1 ـ لما تقدّم من انحصار دلالته على ما ثبت في موضوعه.
2 ـ لما سنورد بعضه ممّا ثبت عن الصحابة أنفسهم من التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبدعائه بعد وفاته..
ـ نبدأ ذلك بالتذكير بما تقدَّم في القسم الاَول من حديث الاِمام عليٍّ عليه السلام ، ومن حديث عمر بن حرب الهلالي، في زيارة اثنين من الاَعراب بمحضر من كل منهما، وتوسُّلهما بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم .
ـ وشاهد ثالث أقرّه ابن تيمية نفسه
(15)، وأخرجه ابن أبي شيبة وغيره. وفيه : أنّه أصاب الناس قحطٌ في زمان عمر بن الخطاب، فجاء رجلقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله، استسق الله لاَُمّتك، فإنّهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله في المنام، فقال : «أئتِ عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنّهم مُسْقَون، وقل له : عليك الكَيس، الكَيس» فأتى الرجل عمر فأخبره(16).
وهذا وحده ـ بعد أن أقرّه ابن تيمية ـ كافٍ في دفع شبهته، وفي ردِّ احتجاجه بتوسُّل عمر بالعبّاس على نفي جواز التوسُّل بدعاء الميِّت، ثمَّ بالميِّت نفسه.
ـ وأخرج السبكي من حديث عائشة؛ أنّه أصاب المدينة قحطٌ، فقالت : انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف.
ففعلوا، فمُطروا حتى نبت العشب، وسمن الاِبل حتى تفتَّقت من الشحم، فسمِّي ذلك العام : (عام الفتق)
(17). وبهذا، بل ببعضه ثبتت صحة التوسُّل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته.
الدرجة الثالثة :
التوسُّل بالجاه والحرمة..
قال ابن تيمية : لم يبلغني عن أحدٍ من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلاّ ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبدالسلام، فإنّه أفتى أنّه لا يجوز لاَحدٍ أن يفعل ذلك إلاّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إن صحَّ الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! قال : ومعنى الاستسفتاء : قد روى النسائي والترمذي وغيرها أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم علَّم بعض أصحابه أن يدعو فيقول : «اللّهم إنِّي أسألك وأتوسَّل إليك بنبيِّك نبي الرحمة، يا محمّد يا رسول الله، إنّي أتوسَّل بك إلى ربِّي في حاجتي ليقضيها لي، اللّهم فشفِّعه فيَّ» فإنّ هذا الحديث قد استدلَّ به طائفة على جواز التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته.
قالوا، والكلام لابن تيمية : وليس في التوسُّل دعاء المخلوقين، ولا استغاثة بالمخلوق، وإنّما هو دعاء واستغاثة بالله، لكن فيه سؤال بجاهه، كما في سنن ابن ماجة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول : «اللّهم إنِّي أسألك بحقِّ السائلين عليك...» الحديث، ففي هذا الحديث أنّه سأل بحقِّ السائلين عليه.. والله تعالى قد جعل على نفسه حقّاً.. إلى أن قال : وقالت طائفة : ليس في هذا جواز التوسُّل به بعد مماته وفي مغيبه، بل إنّما فيه التوسُّل في حياته بحضوره..
ثمّ أخذ ينتصر لهذا الرأي الاَخير، قائلاً : وذلك التوسُّل به أنّهم كانوا يسألونه أن يدعو لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسَّلون بشفاعته ودعائه، ومثَّل لذلك بحديث الاَعرابي : يا رسول الله، هلكت الاَموال وانقطعت السبل فادعُ الله لنا أن يمسكها عنّا.
قال : فهذا كان توسُّلهم به في الاستسقاء ونحوه، ولمّا مات توسَّلوا بالعبّاس رضي الله عنه .. وكذلك معاوية بن أبي سفيان، استسقى بيزيد بن الاَسود الجرشي، وقال : اللّهم إنّا نستشفع إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك إلى الله...
ثمّ ختم بقوله : ولم يذكر أحد من العلماء أنّه يشرع التوسُّل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه، ولا استحبّوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الاَدعية، والدعاء مخُّ العبادة
(18).

والخلط والتمويه والتناقض واضح في أكثر من موضع من هذا الكلام، نبدأ بالكشف عنه قبل تقديم الاَدلّة على المطلوب.
1 ـ قد خلط بين التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين التوسُّل بالجاه، فالفرق واضح بين قولك : «يا محمّد، يا رسول الله إنّي أتوجّه بك إلى الله» وبين أن تقول «اللّهم بحقِّ السائلين عليك» أو «اللّهم بحقِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم » فالاَول توجّه وتوسُّل به، والثاني توجُّه وتوسُّل بحقِّه وجاهه ومنزلته، فهذان نوعان من التوسُّل بالاَنبياء والصالحين يدخلان في هذا القسم، وقد حمل ابن تيمية الاَول على الثاني، وهو حمل غير صحيح.
2 ـ خلط هنا كما خلط من قبل بين التوجُّه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين طلب الدعاء منه، والفارق واضح، ولا يخفى أنّه صنع هذا تمويهاً، ليس إلاّ، ولذلك تراه عندما استدلَّ بحديث الاَعرابي أتى بفقرةٍ منه وترك قوله الذي قدَّمناه آنفاً : «يا رسول الله إنّا نستتشفع بك على الله» هذا القول الذي أقرَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
3 ـ ناقض نفسه في النقل عن العلماء، ثمَّ لجأ إلى تقسيم الدعاء إلى استسقاء وغيره تمويهاً على الاَذهان لا غير، لاَنّه عاد فجمع كل أصناف الدعاء (ولا استحبّوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا في غير ذلك من الاَدعية).
فقد نقل أولاً عن العلماء قولهم بجواز التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته، ثمَّ عاد يقول : ولم يذكر أحد من العلماء أنّه يشرع التوسُّل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته!!
ونأتي هنا على ما ينقض دعواه هذه بأدلَّةٍ أقرَّ هو بصحة بعضها، ولم يذكر البعض الآخر بإثبات أو نفي :

ـ أثبتنا ونؤكد أنّ ابن تيمية لم يجد نصّاً يستفيد منه النهي عن التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فطفق يحمِّل بعض النصوص ما لا تحتمل، وسنراه هنا كيف يدير ظهره لنصٍّ ثبتت صحّته لديه بنحو لا غبار عليه : إنّه ينقل بطرق يعرف صحّتها عن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف أنّه يعلِّم الناس التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهد عثمان بن عفّان، ثمَّ يشفِّعه بأخبار مماثلة عن السلف.. يقول : روى البيهقي أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان في حاجةٍ له، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف : ائتِ الميضأة، فتوضّأ، ثم ائتِ المسجد فصلِّ ركعتين، ثمَّ قل : «اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليه بنبيِّنا محمّدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمّد، إنّي أتوجَّه بك إلى ربِّي ليقضي لي حاجتي» ثمَّ اذكر حاجتك، ثمَّ رح حتى أروح معك.. فانطلق الرجل، فصنع ذلك، ثمَّ أتى بعدُ عثمان بن عفّان، فجاء البوّاب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال : انظر ما كانت لك من حاجة، فذكر حاجته، فقضاها له. ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له : جزاك الله خيراً، ما كان لينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلَّمْتَه فيَّ. فقال عثمان بن حنيف : ما كلّمته، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءه ضرير وشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «أوَ تصبر» ثمَّ ذكر الحديث المتقدِّم.

قال البيهقي ـ والكلام ما زال لابن تيمية ـ : ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله، ورواه أيضاً هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمِّه عثمان بن حنيف. ثمَّ ذكر ابن تيمية لهذا الحديث أسانيد كثيرة، وصحّحها، إلى أن قال :  وروي في ذلك أثر عن بعض السلف، مثل ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب (مجاني الدعاء) بإسناده : جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد بن أبجر، فجسّ بطنه فقال : بك داء لا يبرأ. فقال الرجل : ما هو؟
قال : الدُبَيلَة
(19).

فتحوَّل الرجل، وقال : الله، الله، الله ربِّي لا أشرك به شيئاً، اللّهم إنِّي أتوجّه إليك بنبيِّك محمد نبيِّ الرحمة صلى الله عليه وسلّم تسليماً، يا محمّد، إنِّي أتوجّه بك إلى ربِّك وربِّي يرحمني ممّا بي. قال : فجسّ بطنه، فقال : برئتَ، ما بك علّة..
أضاف ابن تيمية قائلاً : فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنّه دعا به السلف، ونُقل عن أحمد بن حنبل في (منسك المروذي) التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء
(20).
هكذا يشهد على بطلان رأيه، وبطلان دعواه السابقة في أنّه لم ينقل عن أحدٍ من السلف التوسُّل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، هذه الدعوى التي أصرَّ عليها، وصدَّر بها لكتابه
(التوسُّل الوسيلة)(21)!
وبهذا يثبت أنّه لم يكن على شيءٍ في ما ذهب إليه، غير إصرار على رأي باطل تشهد الاَدلَّة الثابتة على بطلانه.
والحقُّ أنّ الذي ثبت عن السلف أكثر من ذلك بكثير، ولم يقتصروا على التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مماته، بل توسَّلوا بغيره ممّن يرون فيه الصلاح ويعتقدون بأنّ له عند الله جاهاً وشفاعة.
التوسُّل بأهل البيت عليهم السلام : على رأس الصالحين والاَبرار يأتي الاَئمة الاَطهار من أهل بيت النبيِّ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
وفي بعض المأثور عنهم عليهم السلام في قوله تعالى : (
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة ) أنَّ الاِمام منهم عليهم السلام هو الوسيلة(22).
وهو إشارة واضحة إلى كونهم من أكبر مصاديق الوسيلة التي يُتَقَرب بها إلى الله تعالى، من خلال مودَّتهم وموالاتهم اللازمتين لصحَّة الاعتقاد.
وفي الدعاء المأثور في التوسُّل بهم عليهم السلام ، وهو المعروف بدعاء التوسُّل، نقرأ :
«اللَّهمَّ إنِّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك نبيِّ الرحمة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ، يا أبا القاسم يا رسول الله يا إمام الرحمة، يا سيِّدنا ومولانا إنَّا توجَّهنا واستشفعنا وتوسَّلنا بك إلى الله، وقدَّمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله إشفع لنا
عند الله.. يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين يا علي بن أبي طالب، يا حُجَّة الله على خلقه يا سيِّدنا ومولانا إنَّا توجَّهنا واستشفعنا وتوسَّلنا بك إلى الله وقدَّمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله، إشفع لنا عند الله.. يا فاطمة الزهراء، يا بنت محمَّد، يا قُرَّة عين الرسول، يا سيِّدتنا ومولاتنا، إنَّا توجَّهنا واستشفعنا وتوسَّلنا بكِ إلى الله، وقدَّمناكِ بين يدي حاجاتنا، يا وجيهةً عند الله، إشفعي لنا عند الله»(23)، ويمضي مع سائر أئمة أهل البيت عليه السلام بالعبارات نفسها.
ونختتم هذا القسم من الكتاب بذكر شواهد ممّا ثبت عن علماء السلف في هذا، بعد التذكير بما سبق ذكره من كلام مالك للمنصور وحثّه على التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واستقبال قبره في الدعاء..
ـ الشافعي : أيّام كان ببغداد، قال : إنِّي لاَتبرَّك بأبي حنيفة، وأجيء قبره كل يوم، فإذ عرضت لي حاجة صلِّيت ركعتين وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد أن تقضى
(24).
وقال ابن حجر : كان الشافعي ـ أيّام كان ببغداد ـ يجيء إلى ضريح أبي حنيفة يزوره فيسلِّم عليه، ثمَّ يتوسَّل إلى الله تعالى به في قضاء حاجته.
ولمّا بلغ الشافعي أنّ أهل المغرب يتوسَّلون بما لك لم ينكر عليهم
(25).
ـ أحمد بن حنبل : ثبت أنّ أحمد توسَّل بالشافعي حتى تعجّب ابنه عبد الله، فقال له أبوه : إنّ الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن
(26).

ـ أبو علي الخلاّل : شيخ الحنابلة في وقته، يقول : ما همَّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر، فتوسَّلت به، إلاّ سهَّل الله تعالى لي ما أُحب(27).
ـ إبراهيم الحربي : قال في قبر معروف الكرخي : قبر معروف الترياق المجرَّب، أي في قضاء الحوائج
(27).
وقال ابن خلكان : وأهل بغداد يستسقون بقبره، ويقولون : قبر معروف ترياق مجرَّب
(28).
ومثل ذلك نقله الشعراني في (الطبقات الكبرى)
(29).
ـ أبو الفرج ابن الجوزي : نقل ابن الجوزي أخباراً كثيرةً جدّاً في زيارة قبر أحمد والتبرُّك والتوسُّل به، منها : عن عبد الله بن موسى، قال : خرجت أنا وأبي في ليلة مظلمة نزور أحمد، فاشتدَّت الظلمة، فقال أبي : يا بنيَّ، تعال حتى نتوسَّل إلى الله تعالى بهذا العبد الصالح حتى يضيء لنا الطريق، فإنِّي منذ ثلاثين سنةً ما توسَّلت به إلاّ قُضِيَتْ حاجتي، فدعا أبي وأمّنتُ على دعائه، فأضاءت السماء كأنَّها ليلة مقمرة حتى وصلنا إليه
(30).
وهكذا يثبت أنّ التوسُّل بأقسامه المذكورة كلّها عمل صحيح، ورد بعضه في القرآن الكريم، وبعضه في الحديث الشريف، علَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه،  وعمل به أصحابه من بعده، وعمل به التابعون ومن بعدهم، إلى يومنا هذا.. كما يثبت أنّ ما أُثير حول التوسُّل من شبهات هي شبهات داحضة لم يتمسَّك أصحابها بدليلٍ، غير المخالفة والعناد، والدليل قائم بضدِّ ما يقولون.. وأنّ ما يصاحب عمل بعض عوام الناس من أخطاء صغيرة أو كبيرة، ينبغي تصحيحها، وإرشادهم إلى الصحيح الثابت في التوسُّل، وأنّ هذا لا يصحُّ ذريعةً لتحريم سنَّةٍ صحيحةٍ ثابتة.
والحمد لله أولاً وآخراً. وهو المقصود والمعبود وحده، ولا مقصود ولا معبود سواه.

_________________

(1) مسند أحمد 4 : 138. الجامع الصحيح للترمذي ح|3578 ـ كتاب الدعوات، سنن ابن ماجة ح|1385.

(2) التوسُّل والوسيلة : 101، 102، 103.
(
3) التوسُّل والوسيلة : 105 ـ 106.
(
4) التوسُّل والوسيلة : 92، وكتاب الزيارة| لابن تيمية أيضاً : 47 ـ المسألة الرابعة.
(
5) التوسُّل والوسيلة : 20، كتاب الزيارة : 86 ـ المسألة السابعة.

(6) سورة الروم : 30|47.
(
7) سورة الفرقان : 25|16.
(
8) زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : 39 ـ 40.

(9) زيارة القبور : 18.

(10) زيارة القبور : 24 ـ 25.
(
11) انظر : زيارة القبور : 26 ـ 37.

(12) راجع : الاَحكام| للآمدي 1 : 312، موسوعة الاجماع في الفقه الاِسلامي| سعدي أبو حبيب 1 : 31.
(
13) المحلّى 7 : 165 ـ 166.

(14) أسد الغابة| ترجمة العبّاس.
(
15) اقتضاء الصراط المستقيم : 373.

(16) المصنّف| لابن أبي شيبة 12 : 31 ـ 32.
(
17) شفاء السقام : 172.

(18) زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : 37 ـ 43.

(19) الدُبَيلَة : دُمّل كبار تظهر في الجوف وتقتل صاحبها غالباً.
(
20) انظر : التوسُّل والوسيلة : 97، 98، 101 ـ 103.

(21) التوسُّل والوسيلة : 18.
(
22) انظر : الميزان في تفسير القرآن 5 : 333 ـ 334.

(23) الكفعمي| البلد الاَمين : 369، عن ابن بابويه.
(
24) تاريخ بغداد 1 : 123.
(
25) و(4) الخيرات الحسان| لابن حجر : 94.

(26) تاريخ بغداد 1 : 120.
(
27) تاريخ بغداد 1 : 122، وصفوة الصفوة| لابن الجوزي 2 : 321|260.
(
28) وفيات الاَعيان 5 : 232.
(
29) الطبقات الكبرى 1 : 72.
(
30) مناقب الاِمام أحمد بن حنبل| لابن الجوزي : 400 ، 563.

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى