ا

الآثار الإسلاميّة ونتائجها الإيجابيّة

 

الأُمم الحيّة المهتمَّة بتاريخها تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخيّ له صلة بماضيها; ليكون آيةً على أصالتها وعَراقتها في العلوم والفنون ، وأنّها ليست نبتة بلا جذور أو فرعاً بلا   أصُول .

والأُمّة اليقظة تحتفظ بآثارها وتراثها الثقافيّ والصناعيّ والمعماريّ ، وما له علاقة بماضيها ممّا ورثته عن أسلافها ، صيانةً لكيانها وبَرهنةً على عزّها الغابر .

وقد دعت تلك الغايةُ السامية الشعوبَ الحيّة لإيجاد دائرة خاصّة في كلّ قطر لحفظ التراث والآثار : من ورقة مخطوطة ، أو أثر منقوش على الحجر ، أو إناء ، أو منار ، أو أبنية ، أو قِلاع وحصون ، أو مقابر ومشاهد لأبطالهم وشخصيّاتهم الّذين كان لهم دور في بناء الأُمّة وإدارة البلد وتربية الجيل ، إلى حدّ يُنفقون في سبيلها أموالا طائلة ، ويستخدمون عمّالا وخُبراء يبذلون سعيهم في حفظها وترميمها وصيانتها عن الحوادث .

إنّ التراث بإطلاقه آية رُقيّ الأُمّة ومقياس شعورها ودليل تقدّمها في معترك الحياة . ولذلك نرى أنّ الشخصية البارزة إذا زارت بلداً وحلّت فيه ضيفاً ، يجعل في برنامجها زيارة المناطق الأثرية والمشاهد والمقابر العامرة الّتي ضمَّت جثمانَ الشخصيّات الّتي تنبضُ بالحياة الحاضرة بتضحياتهم ومجاهدتهم من غير فرق بين دولة إلهيّة أو علمانيّة .

هذا هو موجز الكلام في مطلق الآثار ، وهَلُمَّ معي ندرس أهميّة صيانة الآثار الإسلامية الّتي تركها المسلمون من عصر الرسول إلى عصرنا هذا في مناطق مختلفة .

لا شكّ أنّ كلّ أثر يمتّ للإسلام والمسلمين بوجه من الوجوه بصلة ، له تأثيره الخاصّ في التدليل على أنّ للشريعة الإسلامية وصاحبها حقيقة ، وليست هي ممّا نسجَتْها يدُ الخيال أو صنعتها الأوهام .

وبعبارة واضحة : أنّ الآثار المتبقيّة من المسلمين إلى يومنا هذا تدلُّ على أنّ للدعوة الإسلامية وداعيها واقعيّة لا تُنكر ، وأنّه بُعِثَ في زمن خاصّ بشريعة عالميّة ، وبكتاب معجز تحدّى به الأُمم ، وآمن به لفيف من الناس .

ثمّ إنّه هاجر من موطنه إلى يثرب ، ونشر شريعته في الجزيرة العربيّة ، ثمّ اتّسعت بفضل سعي أبطالها ومعتنقيها إلى سائر المناطق ، وقد قدّم في سبيلِها تضحيات ، وتربّى في أحضانها علماء وفقهاء وغير ذلك . فهذه آثارهم ومشاهدهم وقبورهم تشهد بذلك .

فصيانةُ هذه الآثار على وجه الإطلاق تُضفي على الشريعة في نظر غير معتنقيها واقعية وحقيقة ، وتزيل عن وجهها أيّ ريب أو شك في صحّة البعثة والدعوة ، وجهاد الأُمّة ونضال المؤمنين .

فإذا كانت هذه نتيجةُ صيانتها; فإنّ نتيجة تدميرها وتخريبها أو عدم الاعتناء بها مسلَّماً عكس ذلك .

وممّا يؤسف له أنّنا نرى الأُمّة الإسلامية ابتُليت في هذا الأوان بأُناس جعلوا تدميرَ الآثار وهدمها جزءاً من الدين ، والاحتفاظ بها ابتعاداً عنه; فهذه عقليّتهم وهذا مبلغ إدراكهم الّذي لا يقلّ عن عقلية وإدراك الصبيان ، الّذين لا يعرفون قيمة التراث الواصل إليهم عن الآباء ، فيلعبون به بين الخرق والهدم وغير ذلك .

لا شكّ أنّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الإسلامية وخاصّة في مهد الإسلام; مكّة ، ومهجر النبيّ الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، المدينة المنوّرة ، نتائج وآثاراً سيّئة على الأجيال اللاّحقة الّتي سوف لا تجد أثراً لوقائعها وحوادثها وأبطالها ومفكّريها ، وربّما يؤول بها الأمر إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضيّة مفتعلة ، وفكرة مبتدعة ليس لها أيّ أساس واقعي تماماً .

فالمطلوب من المسلمين أن يُكوِّنوا لجنة من العلماء من ذوي الاختصاص; للمحافظة على الآثار الإسلامية وخاصّة آثار النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، وآثار أهل بيته ، والعناية بها وصيانتها من الاندثار ، أو من عمليات الإزالة والمحو ، لما في هذه العناية والصيانة من تكريم لأمجاد الإسلام وحفظ لذكريات الإسلام في القلوب والعقول ، وإثبات لأصالة هذا الدين ، إلى جانب ما في أيدي المسلمين من تراث ثقافيّ وفكريّ عظيم ، وليس في هذا العمل أيُّ محذور شرعي ، بل هو أمر محبَّذ ، اتّفقت عليه كلمة المسلمين الأوائل كما سيوافيك ، فالسلف الصالح وقفوا ـ بعد فتح الشام ـ على قبور الأنبياء ذات البناء الشامخ . . فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أنْ يُهدم ، وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة بالأبنية في أطراف العالم . وإنْ كنت في ريب من هذا فاقرأ تواريخَهم ، وعلى سبيل المثال إليك نصّ ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية :

إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة من قبيلة «لخم» النصرانيّة يقومون على حرم إبراهيم بـ «حِبْرون»(1) ولعلّهم استغلّوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجّاج هذا الحرم . . . وربّما يكون لقب تميم الداري نسبة إلى الدار أي الحرم ، وربّما كان دخول هؤلاء اللخميين في الإسلام; لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الّذي قدّسه المسلمون تقديسَ اليهود والنصارى من قبلهم(2) .

وجاء أيضاً في مادة «الخليل» : يقول المقدسي ـ وهو أوّل من أسهب في وصف الخليل ـ : إنّ قبر ابراهيم كانت تعلوه قُبّة بُنيت في العهد الإسلامي . ويقول مجير الدين : إنّها شُيّدت في عهد الأُمويين ، وكان قبر إسحاق مغطّى بعضُه ، وقبر يعقوب قباله ، وكان المقدسي أوّل من أشار إلى تلك الهِبات الثمينة الّتي قدّمها الأُمراء الوَرِعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح ، إضافةً إلى الاستقبال الكريم الّذي كان يلقاه الحجّاج من جانب التميميين(3) .

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان لجاء بكتاب فخم ضخم ، وهو يَكشف عن أنّ السيرة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا كانت هي العناية بحفظ آثار رجال الدين ، الكاشفة عن مشروعية البناء على القبور ، وإنّه لم ينبس أيّ شخص في رفض ذلك ببنت شفة ولم يعترض عليها أحد ، بل تلقّاها الجميع بالقبول والرضا ، إظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل ، ومن خالف تلك السنّة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين ، قال سبحانه : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(4) .

واليوم وبعد مضيّ عشرين قرناً على ميلاد السيد المسيح ـ عليه السلام ـ تحوّل المسيح وأُمّه العذراء وكتابه الإنجيل وكذلك الحواريون ، تحوّلوا ـ في عالم الغرب ـ إلى أُسطورة تاريخية ، وصار بعض المستشرقين يشكِّكون ـ مبدئياً ـ في وجود رجل اسمه المسيح وأُمّه مريم وكتابه الإنجيل ، ويعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه أُسطورة «مجنون ليلى» .

لماذا؟

لأنّه لا يوجد أيّ أثر حقيقيّ وملموس للمسيح ، فمثلا لا يُدرى ـ بالضبط ـ أين وُلِد؟ وأين داره الّتي كان يسكنها؟ وأين دفنوه بعد وفاته ـ على زعم النصارى أنّه قتل ـ ؟

أمّا كتابه السماوي فقد امتدّت إليه يد التحريف والتغيير والتزوير ، وهذه الأناجيل الأربعة لا تمتّ إليه بصلة وليست له ، بل هي لـ «متّى» و «يوحنّا» و «مرقس» و «لوقا» ، ولهذا ترى في خاتمتها قصّة قتله المزعوم ودفنه ، ومن الواضح ـ كالشمس في رائعة النهار ـ أنّها كتبت بعد غيابه .

وعلى هذا الأساس يعتقد الكثير من الباحثين والمحقّقين أنّ هذه الأناجيل الأربعة إنّما هي من الكتب الأدبيّة الّتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني من الميلاد ، فلو كانت الآثار الخاصّة بعيسى محفوظة ، لكان ذلك دليلا على حقيقة وجوده وأصالة حياته وزعامته ، وما كان هناك مجال لإثارة الشكوك والتساؤلات من قِبَل المستشرقين ذوي الخيالات الواهية .

أمّا المسلمون ، فهم يواجهون العالَم مرفوعي الرأس ، ويقولون : يا أيّها الناس لقد بُعثَ رجلٌ من أرض الحجاز ، قبل ألف وأربعمائة سنة لقيادة المجتمع البشري ، وقد حقّق نجاحاً باهراً في مهمّته ، وهذه آثار حياته ، محفوظة تماماً في مكّة والمدينة; فهذه الدار الّتي وُلد فيها ، وهذا غار حراء حيث هبط إليه الوحي والتنزيل فيها ، وهذا هو مسجده الّذي كان يُقيم الصلاة فيه ، وهذا هو البيت الّذي دُفن فيه ، وهذه بيوت أولاده وزوجاته وأقربائه ، وهذه قبور ذريّته وأوصيائه ـ عليهم السلام ـ .

والآن ، إذا قَضينا على هذه الآثار فقد قضينا على معالم وجوده ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ودلائل أصالته وحقيقته ، ومهّدنا السبيلَ لأعداءِ الإسلام ليقولوا ما يريدون .

إنّ هدم آثار النبوّة وآثار أهل بيت العصمة والطهارة ليس فقط إساءة إليهم ـ عليهم السلام ـ وهتكاً لحرمتهم ، بل هو عداء سافر مع أصالة نبوّة خاتم الأنبياء ومعالم دينه القويم . إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبديّة ، وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة ، ولابدّ للأجيال القادمة ـ على طول الزمن ـ أنْ تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها . ولأجلِ تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ ـ أبداً ـ على آثار صاحب الرسالة المحمّدية ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لكي نكون قد خَطَوْنا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة ، حتّى لا يشكّك أحد في وجود نبيّ الإسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما شكّكوا في وجود النبيّ عيسى ـ عليه السلام ـ .

لقد اهتمَّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبيّ محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وسيرته وسلوكه ، حتّى أنّهم سجّلوا دقائق أُموره وخصائص حياته ومميّزات شخصيّته ، وكلّ ما يرتبط به كخاتمه ، وحذائه ، وسواكه ، وسيفه ، ودرعه ، ورمحه ، وجواده ، وإبله ، وغلامه ، وحتّى الآبار الّتي شرب منها الماء ، والأراضي الّتي أوقفها لوجه الله سبحانه ، والطعام المفضّل لديه ، بل وكيفية مشيته وأكله وشربه ، وما يرتبط بلحيته المقدّسة وخضابه لها ، وغير ذلك ، ولا زالت آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا(5) .

هذه كلمة موجزة عن هذا الموضوع وموقف العقلاء عامّة والمسلمين خاصّة منه ، فهلمّ معي ندرس المسألة في ضوء الكتاب والسنّة حتّى تتجلّى الحقيقة بأعلى مظاهرها ، ونثبت أنّ صيانة قبور الأنبياء والأولياء والشهداء وتعميرها وتشييدها بقباب ، هي ممّا دعا إليها الكتاب والسنّة النبويّة وسيرة المسلمين إلى أوائل القرن الثامن ، عصر إثارة الشكوك حول هذا الموضوع وغيره ، عصر ابن تيمية (661-728 هـ ) الّذي أثار تلك الفكرة لتفريق كلمة الأُمّة ، وتلقّى ذلك بالقبول وارث منهجه محمد بن عبد الوهاب النجدي (1115-1206 هـ ) ، إلى أن أحيا منهج شيخه بعد الاندراس بفضل سيف آل سعود ، وحمايتهم له لغاية في نفوسهم لا تُنكَر .

------------------

الهوامش:

(1) كلمة عبرية تعني : مدينة الخليل .

(2) دائرة المعارف الإسلامية 5 : 484 مادة تميم الداري .

(3) دائرة المعارف الإسلامية 8 : 431 .

(4) النساء : 115 .

(5) راجع الطبقات الكبرى لابن سعد 1 : 360-503 حول هذا الموضوع .