تصدع القبيلة وليس الشرك وراء ظهور الوهابية

 

الدكتور خالد الدخيل

 

 

من حيث المبدأ يرتبط نشوء الدولة بدرجة الاستقرار والتحضر في المنطقة التي تظهر فيها هذه الدولة. هذا المبدأ مستمد من التاريخ. جميع الدول التي ظهرت في التاريخ الإنساني ظهرت في مناطق سبقتها إليها عمليات استقرار، مجتمعات اتسمت بالتحضر والانتماء إلى المكان بشكل عضوي. دائماً ما كانت هذه المناطق على ضفاف أنهار، أو أودية، أو طرق تجارة، أو كل تلك الخصائص مجتمعة في مكان واحد. تمشياً مع المبدأ ذاته، وانعكاساً للسيرورة التاريخية ذاتها نجد أن قيام الدولة شرط مسبق لقيام الحضارة.

كل الحضارات الإنسانية لم تبرز إلا في مناطق تحكمها الدولة، ثم تنمو وترسخ هذه الدولة مفهوماً وبنية وعلاقات. لا تقوم الحضارة إلا في إطار دولة. ولا تظهر دولة إلا في إطار اجتماعي من الاستقرار والتحضر. هذه معادلة أو دورة تاريخية تتكرر عبر العصور. مع ملاحظة أن قيام الدولة لا يؤدي حتماً إلى قيام حضارة. وهذه مسألة أخرى.

المهم بالنسبة لنا هنا أن حالة الجزيرة العربية، وتحديداً قيام الدولة السعودية في مرحلتها الأولى ليست استثناء ألقينا في مقالة الأسبوع الماضي لمحة على التاريخ السياسي للجزيرة العربية يؤكد ما نذهب إليه هنا ولأن تلك اللمحة قادتنا إلى مرحلة الدولة السعودية الأولى، سنحاول في هذه المقالة أن نلقي لمحة أخرى على تاريخ هذه الدولة.

لنذكر بأن السؤال المركزي هو: لماذا قامت الدولة السعودية في العارض، وليس في إحدى مناطق نجد الأخرى؟ ولنذكر أيضاً بأن الفرضية الرئيسية التي انطلقت منها الأسبوع الماضي هي أن منطقة العارض كانت من أقدم، أو على الأقل إحدى أقدم مناطق الاستقرار والتحضر في نجد منذ ما قبل الإسلام.

تقع العارض في جنوب نجد. واللافت في تاريخ الجزيرة العربية أن الاستقرار والتحضر يزدادان كلما اتجهنا جنوباً، ويقلان ويتضاءلان كلما اتجهنا شمالاً, والمبدأ ذاته ينطبق على منطقة نجد فكلما اتجهنا شمالاً يتضاءل الاستقرار، وتتراجع معالم التحضر وعلى العكس من ذلك كلما اتجهنا جنوباً. موقع العارض يجعلها ضمن المعادلة المذكورة، وبالتالي يبرر لماذا ظهرت الدولة المركزية في هذه المنطقة دون غيرها، أو قبل غيرها. هذا يحتاج إلى بعض التفصيل.

سنلقي نظرة على ثلاثة مواضيع:

أولاً الحركة الوهابية باعتبارها الحاضنة الأولى لفكرة الدولة المركزية. ثانياً علاقة الدولة السعودية مع القبائل البدوية في نجد، وثالثاً نسب الأسرة السعودية الحاكمة وعلاقته بطبيعة الدولة.

الإطار الجغرافي لكل هذه المواضيع هو منطقة العارض، وهي كما ذكرنا الأسبوع الماضي تقع في قلب اليمامة، كما يقول المؤرخون. وقاعدة اليمامة، أو عاصمتها هي "حجر". يقول ياقوت الحموي ( ت 626 هـ ) في معجمه عن حجر هذه بأنها "مدينة اليمامة وأم قراها، وبها ينزل الوالي، وهي شركة، إلا أن الأصل لحنيفة وهي بمنزلة البصرة والكوفة، لكل قوم منها خطة، إلا أن العدد فيه لبني عبيد من بني حنيفة" ثم يفسر ياقوت تسمية هذه المدينة بحجر بما فعله عبيد بن ثعلبة بن حنيفة ( أول من استقر مع عشيرته في اليمامة كما يبدو) حينما أتى اليمامة لأول مرة.

يقول ياقوت إن عبيداً "عندما رآها ( اليمامة ) لم يحل عنها وعرف أنها أرض لها شأن فوضع رمحه في الأرض ثم دفع الفرس واحتجر ثلاثين قصراً وثلاثين حديقة، وسماها حجراً، وكانت تسمى اليمامة..." ( معجم البلدان، ج2 ، ص 221).

ما قاله ياقوت عن حجر، أو العارض، تسميتها المتأخرة، يجمع بين المعلومة، والحكاية التاريخية التي ربما كان أصلها أسطورياً فقوله إن حجر هي "مدينة اليمامة وأم قراها" يشير إلى طبيعة الحياة في هذه المنطقة أيام ياقوت، أواخر القرن السادس الهجري ونحن نعرف أن اليمامة كانت تمول مكة بالقمح قبل الإسلام. ونعرف من حروب الردة في صدر الإسلام أن اليمامة كانت منطقة مزدهرة زراعياً إلى درجة أنها استطاعت أن تدعم مجهودها الحربي ذاتياً أمام دولة المدينة في ثلاثة حروب متتالية.

هذا يعني أن الفائض الاقتصادي لليمامة كان كبيراً بما يكفي لإدارة الصراع مع قريش ودولة المدينة. والزراعة كانت المصدر الرئيسي لهذا الفائض، والممول الرئيسي لذلك المجهود، وليس التجارة، كما كانت عليه حال قريش في مكة. لم تكن اليمامة تقع على طريق تجاري رئيسي. كانت الزراعة أساس الاستقرار والحياة في هذه المنطقة.

كان ذلك في بداية القرن الإسلامي الأول. ولذا ليس هناك مجال للاستغراب عندما يصف ياقوت حجر بالمدينة، ويشبهها بالبصرة والكوفة، وهو في أواخر القرن السادس الهجري. مما يعني أن حجر كانت تعتبر إحدى حواضر الدولة الإسلامية آنذاك.

حتى في حكاية سبب تسميتها بحجر، وهي حكاية فيها نَفَسٌ أسطوري، نجد أنها حكاية تحمل رموزاً حضرية مثل القصور والحدائق. لنتذكر أن حجر التي يتحدث عنها ياقوت هنا هي المكان الذي تقوم فيه مدينة الرياض الآن.

نعود إلى الحركة الوهابية لماذا؟

لأنها أولاً، وكما ذكرت، هي حاضنة فكرة الدولة السعودية، وثانياً لأنها حركة ظهرت في حاضرة نجد في القرن 12 الهجري، وثالثاً لأن ظهور هذه الحركة لا علاقة له بتدهور الحياة الدينية، أو انتشار الشرك في نجد، كما هو شائع على العكس جاءت الحركة تتويجاً لعمليات استقرار وتحضر استمرت لقرون منذ سقوط دولة بني الأخيضر في القرن الخامس الهجري، كما ترجح المصادر التاريخية. ليس هنا مجال التفصيل في كل ذلك. لكن ربما تكفي بعض اللمحات السريعة.

فالظاهرة التي تؤكدها المصادر المحلية أن القبيلة كانت قبيل ظهور الحركة تعاني من تصدع واضح تمثل في أن العائلة حلت محل القبيلة في مجتمع نجد آنذاك، وأصبحت الأساس الذي يتمحور حوله البناء الاجتماعي، وليس القبيلة كما كان عليه الحال من قبل. كذلك برزت ظاهرة المدن المستقلة سياسياً عن بعضها، بما يشبه ظاهرة "دول - المدن" المستقلة في العصر الحديث. كانت هذه البلدات أو المدن تحكم من قبل عوائل.

وكان حكم كل عائلة في الغالب غير مستقر بسبب الصراع المستمر داخل العائلة على حكم البلدة. من ناحية أخرى كانت هذه المدن في حالة صراع مرير فيما بينها على المصادر وتوسيع النفوذ. إذا أضفنا إلى ذلك ما كانت المنطقة تتعرض له من دورات جفاف متعاقبة، وكوارث طبيعية وحروب، اتضح أن مجتمع حاضرة نجد كان في القرن الثاني عشر الهجري على حافة الانهيار.

ظهرت الحركة الوهابية في هذا الإطار تحديداً وليس هناك من الناحية التاريخية ما يشير إلى أن الشرك، أو تدهور الحالة الدينية، كان جزءاً من هذا الإطار. ومن حيث أن الوهابية طرحت فكرة التوحيد، وفكرة الدولة المركزية، فإن هذا يعني أن الحركة قرنت التوحيد الديني بالتوحيد السياسي وبالتالي يصبح من الجائز، بل ومن المنطقي القول بأن ظهور الحركة جاء استجابة لتصدع القبيلة، ولهدف استبدال القبيلة بالدولة كإطار جديد ومختلف للمجتمع.

أن تأتي الاستجابة بهذه الصيغة السياسية، ولهذا الهدف المتمثل في مفهوم الدولة هو انعكاس لطبيعة المجتمع، ولنمط حياة هذا المجتمع الذي ظهرت فيه هذه الاستجابة. كان قائد الحركة، الشيخ محمد بن عبدالوهاب، يحمل فكرة الدولة، وليس فقط فكرة الدعوة، باحثاً لها عن دعم ورعاية سياسية من قبل أحد أمراء المدن المستقلة.

ذهب أولاً إلى العيينة، وأميرها عثمان بن معمر. وبدا حينها أنه أقنع هذا الأمير بمشروعه الديني السياسي. لكن بن معمر تراجع تحت ضغوط حاكم الإحساء. عندها ذهب الشيخ إلى الدرعية، وفيها وجد الدعم والرعاية التي كان يتطلع إليهما. اللافت هنا أن الشيخ لم يذهب في بحثه عن الدعم خارج منطقة العارض.

ملاحظة أخرى مهمة، وذات صلة. لم تكن الحركة الوهابية أول حركة دينية في نجد مثلت تدخلاً دينيا في تاريخ المجتمع. كانت هناك حركة تعليم دينية قبل الوهابية. لكن اللافت أن ما يميز هذه الحركة أنها كانت تتمحور حول الفقه بشكل شبه حصري. يقول الشيخ عبدالله البسام في كتابه المهم "تاريخ علماء نجد منذ ثمانية قرون" عن علماء نجد قبل الحركة الوهابية بأن "علمهم يكاد ينحصر في الفقه، والمذهب السائد لديهم هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل... وعلمهم على اختلاف مذاهبهم لا يكاد يخرج عن تحقيق هذا النوع من العلم. فعلوم التفسير والحديث والتوحيد مشاركتهم فيها قليلة جداً." ( ج1، ص17 ) عندما جاءت الحركة الوهابية غيرت وجهة التعليم الديني في نجد. أصبح التوحيد، وليس الفقه، هو محور النشاط العلمي. ماذا يعني هذا؟ بقية الحديث الأسبوع المقبل.

*أستاذ مساعد علم الاجتماع السياسي (جامعة الملك سعود - الرياض) - أستاذ زائر في (مؤسسة كارنيجي - واشنطن)

alhaqaeq.net